24-سبتمبر-2015

مطاردة مع خاروف العيد، حلب 2012 (Getty)

أمس الأول كانت وقفة عرفات، حيث تهبّ وفود حجاج بيت الله الحرام إلى صعود الجبل المبارك، في مشهدٍ جمالي قد يخلب الألباب، أما بالنسبة لي أنا المهجّر القسري عن وطني، فقد كان يومًا عاديًا باردًا كسائر أيام الغربة.

 يبدأ يوم العيد في الغربة بتحضير القهوة ومراقبة سلوك الآلة التي تجأر كخروف العيد المذبوح

يومٌ يبدأ بتحضير القهوة الصباحية ومراقبة سلوك الآلة الكهربائية التي تجأر كخروف العيد المذبوح، بينما تتقاطر نقاط القهوة في إبريقها الزجاجي الشفاف، ثم بتفقد آلام الظهر والرقبة وسائر البدن المنهك، وبتفتيش البريد الإلكتروني بحثًا عن فسحة الأمل التي كان سعد الله ونوس رحمه الله قد أخبرنا بأنها موجودة حتى لا يضيق بنا العيش، ثم ينتهي اليوم المميز كما تنتهي أغلب الأيام، ربما برسالة تعزية لصديق سوري فقد عزيزًا، أو بكلمة مواساة لصديق فلسطيني غزاوي لم تقبل أوراقه في مكاتب تصنيف اللاجئين، أو بتحية خجولة لصديق عراقي هاجر من بابل ولم يصل حتى الآن إلى وطن آخر، بينما تحمر شاشة الكومبيوتر خجلًا أمامي حين يهنئني بوضعي المستقر الجديد. 

هكذا تكون عناوين كل تلك الرسائل السابقة التي لا تحمل خيرًا "كل عام وأنت بخير"، فالعيد على مشارف الأبواب، وما هو إلا يوم واحد، وسيقرع بابك كمبشر لحوح يصر على إقناعك بأنه كل شيء على ما يرام ما أن تقبل بالاستماع له، حتى لو لم تفهم اللغة التي يتحدث بها. 

وبدوري سأحاول أن أبدّل قليلًا في العبارة خوفًا من التكرار، فأرسل لوالدي في منفاه "كل سنة وأنت سالم يا والدي، وأرجو أن ترتد لك العافية قريبًا في العيد القادم وأن نلتقي قريبًا.. اعتنِ بأمي". "كل عيد وأنت معافاة من المكروه يا والدتي، أفقتد لحلويات العيد من تحت دياتك الرائعات، وأرجو أن يكون الشفاء رفيقك في العيد القادم وأني نلتقي قريبًا، اعتني بأبي".. ثم أمسح كل ما كتبت وأقرر ألا أعايد أحدًا بنوبة غضب مفاجئة، فأي عيد وأي حال نحن فيه قد يتلاءم ويتناسب مع تلك العبارات؟! 

أفاجئ نفسي مبتسمًا حين أقول، لولا فيلم "الرسالة" الذي أشاهده في نفس الوقت من كل عام لما تذكرت العيد في الغربة، وأغرق في تأمل وجه أنتوني كوين على الشاشة بينما يتلقى حربة "وحشي" في جسده، يتلوى متألمًا كما تلوى قبله بقرون حمزة عم الرسول، ثم تتصاعد روحه بهدوء قبل حلول العيد السعيد بيوم، وذلك ما يحدث في كل عام. 

لا تقطع سلسلة أفكاري حول موت حمزة واقتلاع قلبه وكبده، ومقاربات الصورة العنيفة من الواقع الحالي، سوى sms حادة الصوت تحمل أمنيات طيبة لأمة الإسلام بمناسبة حلول الأضحى المبارك، فاكتشف بأننا في العيد الكبير لا الصغير، ولكنني لا أرضخ لرجاء الرسالة العامة بأن أرسلها لآلاف الأصدقاء كي أدخل بها الجنة، فالقهوة باتت جاهزة وتحتاج لمن يشربها، ولا يهمني أن قهوة الغربة تفتقد لنكهة الهيل التي كان جدي يؤكد أنها ضرورية كلما دق البن في مهباجه القديم، فجدي نفسه لم يعد موجودًا وتوارى تحت التراب، والمهباج نفسه لم يعد موجودًا بعد اجتياح القرية منذ سنوات. 

يشرب الموتى ماء عيدهم من سطول كساها الصدأ ويشمون رائحة الآس الطري بينما يستمرون في صمتهم المهيب

في العيد يصطلح المتخاصمون. في العيد يزور الأهالي بعضهم بعضًا ويصلون الأرحام. في العيد يعود الناس المرضى ويطيبون خواطرهم. في العيد تنصب الأراجيح وتعلو الزغاريد وترتفع البالونات في السماء. في العيد يتضايق العجائز من المفرقعات النارية الصاخبة، وتطغى رائحة السمن العربي على رائحة الياسمين في الحارات. في العيد قد تغدو وفاة أحد ما نعمة له ويقول المعزون بوفاته "نياله مات بيوم فضيل".

في العيد تنفق بضائع الأسواق، وتعمر جيوب الأطفال بالعملات، وتضج صالات السينما برواد الأفلام الهندية والكاراتيه. في العيد تمتلئ المقابر بالأحياء والأموات، فترى في اللوحة زوجة تعانق شاهدة قبر زوجها، وطفلة تمسك إصبع والدها كي يغادر المكان الممل، وعجوز توزع بقلاوة العيد عن روح ابنها، وواحد يغب الماء كسحلية عطشى من خرطوم يقطع جسد المقبرة ليصل لفمه، أما الموتى فيشربون ماء عيدهم من سطول كساها الصدأ وأرهقتها وريقات الأشجار الميتة، ويشمون رائحة الآس الطري بينما يستمرون في صمتهم المهيب. 

في العيد يغدو الخجل مضاعفًا من الحذاء القديم والبنطال القديم والسجادة القديمة في البيت القديم، كل شيء في هذا العيد قديم، أفاجئ نفسي مجددًا مبتسمًا حين أقول، وحدها الآن آلة القهوة جديدة، أفكارنا قديمة وحياتنا قديمة وعيدنا قديم، ولذلك يغدو الخجل مضاعفًا من هذا العيد.

كل عام وأنت بخير يا قارئي القديم، ويا قارئي الجديد، وأرجو أن تُرد لنا أحلامنا البسيطة السعيدة في العيد القادم البعيد.