يزخر العراق بتراث حضاري وإنساني لا مثيل له موزع على كل الفترات التاريخية منذ عصور ما قبل التاريخ حتى العصر الحديث، وإلى جانب ذلك التراث المادي، يهمل الكثير من عشّاق التراث والحضارة العراقية جانب آخر، وهو التراث غير المادي في العراق، والذي لا يختلف هو الآخر عن نظيره المادي في تنوعه وثرائه.
سلّطت دراسة حديثة الضوء على الأسباب والآليات التي جعلت من "التراث الثقافي العراقي فريسة للنخب السياسية العراقية"
ورغم العزلة الدولية التي واجهها العراق في حقبة ما قبل 2003، إلا أنّ التراث العراقي ظل حلم الباحثين والدارسين والمهتمين في كل بقاع العالم، ولكنّ الواقع بعد 2003 لم يتغير كثيرًا، ولعلّ الفترة الممتدة من 2010 لغاية 2022 هي أكثر الفترات حساسيةً فيما يخص التراث، فبسبب النهب والإهمال لا يزال التراث العراقي يواجه خطرًا محدقًا، ولعلّ هذه الأخطار تتعمّق وتتغوّل يومًا بعد يوم، كما تشير بذلك دراسات عديدة.
وفي دراسة مطولة نشرها معهد تشاتام هاوس البريطاني بعنوان (افتراس التراث الثقافي العراقي) وترجمها "ألترا عراق"، سلّطت الضوء على الأسباب والآليات التي جعلت من "التراث الثقافي العراقي فريسة للنخب السياسية العراقية"، ووضعت الدراسة استغلال الموارد الثقافية لأغراض سياسية في مقدمة الأخطار التي تواجه التراث العراقي، حيث "أصبح الاستغلال السياسي للتراث سمةً بارزةً في المشهد السياسي في العراق بعد عام 2003"، كما ترى الدراسة.
وبحسب الدراسة، فإنّ "النخب التي استحوذت على البلاد استغلت التراث الثقافي في خدمة الأجندات غير المرغوب فيها من خلال تسويق المواقع الثقافية ونشر الروايات السياسية والدينية الطائفية والإقصائية، ما أدى إلى تقليل دور هذا التراث باعتباره منفعة عامة في متناول جميع العراقيين".
ووضعت الدراسة عامل المحاصصة السياسية وتقاسم السلطة القائم على الانقسامات الطائفية، فقد "شجعت المحاصصة النخب الطائفية على استغلال وتشويه التاريخ والهويات المشتركة للعراق كوسيلة لزرع الانقسامات الثقافية وترسيخ أسبقية أجندة على أخرى"، كما أنها "ألحقت ضررًا جوهريًا بالحياة الثقافية للبلاد وتركت المجتمع أكثر انقسامًا بسبب السياسات الطائفية".
اقرأ/ي أيضًا: اكتشافات أثرية جديدة تطلّ على العالم من أقدم مدن العراق
وتتجلى الآثار في "إعادة كتابة التاريخ من قبل النخب الطائفية في البلاد بعد عام 2003، وفي إعادة هيكلة المواقع الثقافية والدينية بالكامل والمدن والبلدات من قبل المؤسسات غير الوطنية التي استولت عليها لمصالح حزبية"، ومن الأمثلة على ذلك؛ "الوصاية" على مدينة سامراء ذات الأهمية التاريخية، والأعمال والترميم في ضريح النبي حزقيال القديم في قضاء الكفل بمحافظة بابل.
ونوهت الدراسة إلى أنّ هذا التراث أصبح مصدرًا اقتصاديًا كبيرًا تتنافس عليه الجماعات الدينية والحزبية، وأحيانًا يدار من قبل مؤسسات تبدو حكومية في شكلها ولا يمكن الوثوق بها، بالإضافة إلى ضعف وغياب قوانين حماية التراث، إذ "تضررت الاستمرارية والاستدامة الثقافية بسبب الافتقار إلى قوانين وطنية تحمي التراث، فضلاً عن ضعف التنسيق والتواصل بين الجماعات السياسية والدينية المتحكمة في البلاد".
وتشير الدراسة إلى "الحاجة الكبيرة والعاجلة إلى مناقشة وطنية ودولية لدراسة آثار المحاصصة السياسية والطائفية للموارد الثقافية، فيما حملت وزارة الثقافة والسياحة والآثار العراقية كاملة المسؤولية لتتبنى هذه المناقشات جنبًا إلى جنب مع منظمات المجتمع المدني والجامعات العراقية".
شجعت المحاصصة النخب الطائفية على استغلال وتشويه التاريخ والهويات المشتركة للعراق كوسيلة لزرع الانقسامات الثقافية
وشدّدت على أنّ "هناك حاجة ماسة إلى إطار عمل قائم على الأخلاق وحسن النية لإدارة التراث الثقافي العراقي حيث بمكن للمنظمات الدولية أن تلعب دورًا رئيسيًا في هذا الصدد، فيما حددت سلسلة من التوصيات لـ"مواجهة تأثير الطائفية على التراث الثقافي العراقي وتدهور الدولة بعد عام 2003، كما تستهدف هذه التوصيات الحكومة العراقية ومؤسسات التراث والأوقاف الدينية للبلاد والجهات المانحة الدولية والأوساط البحثية".
اقرأ/ي أيضًا:
علماء أمريكيون يعيدون صياغة قصة زراعة "الدُّخن" في العراق القديم
آلهة الشعر وسيّدات الملحمة.. ترانيم العراق القديم تصدح في نيويورك