29-مايو-2023

كثيرون في العراق يحنون إلى أيام البعث (فيسبوك)

في كل لحظة تاريخية يظهر فيها الطاغية تسجل في الوقت نفسه أزمة أخلاقية عظيمة يكابدها مجتمع ما. إن ظهور الطاغية علامة على تمكّنه في داخلنا؛ أنه نتيجة محتومة لخرابنا الأخلاقي. فعلينا أن نحرص كثيرًا على ألا تتسرّب عدوى "حب" صدام حسين إلى أجيالنا اللاحقة، مثلما يفعل الآن محبوه المهزومون.

حملت أرض العراق فأنجبت صدام حسين ورعته لأكثر من ثلاث عقود بالتمام والكمال

لا يظهر الطاغية إلا من حيث كونه أحد تمثّلات ذاكرتنا المعطوبة. الطاغية لا يظهر مالم يحدث عقد اجتماعي صامت بينه وبين تمثّلاته المتعددة، أعني بها بعض فئات المجتمع التي أمضت، لا شعوريًا، على ظهوره كجلّاد مُجازٍ من قبل نفسه! إن الأرض التي لا تنجب الطاغية ستبتلعه حتمًا لمجّرد أن يظهر، ذلك أن الأرض وفيّة جدًا لتكويناتها الطبيعية.  بيد أن الأرض التي تسهم هي في تفريخ الجلادين سيمكث فيها هؤلاء طويلًا كديدان ترعى في هذا المكان الخصيب. وكل مجتمع بما قدمت ذاكرته الثقافية رهين.

الحياة الكريمة مرهونة بالقدر الذي يهب فيه مجتمع ما وثبة جسورة تبحث عن حريتها بنفسها، بمعزل عن لوائح جاهزة يحددها الطاغية، وبخلاف ذلك ستحيل نفسها إلى قابلة دميمة وكئيبة لا تولِد سوى طغاة. حملت أرض العراق فأنجبت صدام حسين ورعته لأكثر من ثلاث عقود بالتمام والكمال، فحاول أن يجهز على كل ما هو شريف ومقدس.

لا يمكن لبعض الجماعات أن تستطيب الطغيان بكل هذه الرحابة، مالم تكن وفية حد التصوف لعقدها اللاشعوري المبرم بينها وبين الجلاد. إن فشل أمة ما في تنحية الطاغية، أو بتعبير أدق: عدم توليد الطغاة، لهي أمة فضّلت العيش وانتظار مبادرات الآخرين لكي ينتشلوها من قبضة الطاغية. من لا يفلح في تنحية الطاغية فقد وقّع برحابة ضمير على استمرارية أزمته الأخلاقية.

المجتمعات التي تكرّس قيم الاستبداد بحجة الحفاظ على التقاليد هي المجتمعات التي لا تملّ عن إنتاج الطغاة. يمكنها أن تسكت عن كل الفظاعات، وتقبل بالذل والهوان وكل أشكال الاستلاب، لكنّها لا تتردد في تأطير العبودية بوصفها ضمانة أكيدة لديمومة الأصنام. ولذلك لا نستغرب من ذلك الحنين المستمر لعودة طغاة البعث لتخريب الحياة من جديد.

المجتمعات التي تزعم أنها تدافع عن القيم، في الحقيقة هي لا تدافع إلّا عن العادات العزيزة على قلبها؛ عادات الخضوع، والكسل، والأطر الجاهزة، والحرب الشعواء ضد كل الأسئلة الإشكالية. كونها، بحسب فتحي المسكيني، "لم تعد تملك تبريرًا معياريًا كافيًا أو مناسبًا للبقاء بذاتها، كونها لم تعد تستطيع توفير شكل الانتماء الحيوي للمنتمين إليها".

وبين الحين والآخر نسمع غمغمات المساكين عن أيام البعث "الذهبية" يوم كانت الناس تخشى من البوح حتى لنفسها خشية أن يقبض عليه متلبسةً بالجرم المشهود! إن المجتمعات التي فقدت علاقتها مع الله بوصفه إحالة إلى اللا متناهي، سرعان ما تغرق في وحل الصنمية والطغيان، لتفرّخ لنا مئات الأصنام الهووية وتبث فيها الروح وتمنحها صفة التقديس والأهلية للنيابة عن اللا متناهي. إنها عبودية خجولة وصامتة لا تقوى على المكاشفة والاعتراف كنوع من عذاب ضمير لا واعي جراء خيانتها الكبرى للا متناهي، فما عليها سوى استبداله بطاغية صغير بوصفه "زعيم الأمة" كما فعلها عبّاد صدام حسين.

المجتمعات التي تكرّس قيم الاستبداد بحجة الحفاظ على التقاليد هي المجتمعات التي لا تملّ عن إنتاج الطغاة

 لقد وقعت هذه المجتمعات في أزمة أخلاقية كبرى يوم خانت اللا متناهي وأمضت بكل رحابة و"حرية" على سلطة الصنم-الطاغية بوصفه صورة شبحية باهتة، و"ضباب صامت" تحاكي صورة اللا متناهي. والحقيقة أن الصنم، بتعبير جان لوك ماريون، لا يحيل لشيء سوى نفسه. وعبّاد الأصنام يعلمون ذلك علم اليقين، مثلما يعلمون عبوديتهم، لكن أنّى لعبيد الطغاة أن يبلغوا اللامتناهي؟