09-فبراير-2023
السوداني

الكتابة عن حجم الفساد الإداري والمالي في العراق باتت تدعو للخجل (فيسبوك)

أمهل رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي وزراء حكومته فترة لا تتجاوز مائة يوم، لتحسين أداء وزارتهم إثر موجة التظاهرات التي عمت البلاد مطالبة بالخدمات والعمل ومكافحة الفساد وقتل فيها 10 أشخاص في مصادمات مع قوات الأمن. 27 شباط/فبراير 2011 موقع بي بي سي عربي.

في مساع عاجلة لاحتواء أزمة الاحتجاجات، وعد رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي بحزمة إصلاحات اقتصادية واجتماعية بهدف تحسين أوضاع فقراء البلاد، كما وعد بنزع سلاح الميليشيات خارج إطار الدولة، وإجراء تعديل وزاري مهم. 9 تشرين الثاني/نوفمبر 2019 موقع DW.

هل يمكن لأحدكم أن يبني دارًا حسب المواصفات والظروف العراقية خلال 100 يوم؟ طبقًا لوعود رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني سيكون السؤال مدعاة للسخرية، ويكون الجواب عليه بنعم كبيرة، ذلك أن الشخص الذي يمكنه أن ينتشل بلدًا بحجم العراق خلال هذه المدة، سيكون من باب أولى أن ينجز دارًا بمدة زمنية أقل (ربما تكون ثلاثة أيام مقارنة ببرنامج السوداني المئوي!). ليس هذا فحسب، بل وعد السوداني، خلال هذه المدة الإعجازية، بتحقيق هذا البرنامج التالي: "الخدمات، الطاقة الكهرباء، الفقر والبطالة، مكافحة الفساد، إصلاح الاقتصاد، مشاريع استراتيجية، الانتخابات، النازحون".

 يذكرنا هذا البرنامج الإعجازي ببرنامج عادل عبد المهدي: "راتب للأسر الفقيرة، مُنَح للعاطلين عن العمل، الإسراع بمحاكمة الفاسدين، التحقيق في إطلاق الرصاص ضد المتظاهرين، ضمان عدم استخدام العنف ضد المتظاهرين، لجنة كفاءات للإصلاح ومحاربة الفساد، تشكيل حكومة بعيدة عن المحاصصة، تعديل الدستور وقانون الانتخابات، عقد مؤتمر إقليمي هدفه النأي بالعراق عن الصراعات". وتذكرنا هذه المئوية الإعجازية بمئوية المالكي، التي تحولت إلى ثمان سنين عجاف، احترق فيها الأخضر واليابس ولا زلنا نعاني من تركتها الثقيلة. وأخشى ما أخشاه أن تنقلب هذه المئوية على رئيس وزرائنا الحالي الذي لا زال سجله ناصع البياض من جرائم الفساد مثلما نسمع. وحتى كتابة هذه الحروف، فقد تخطينا المدة الزمنية المقررة ولم يُنجَز أي ملف من جملة الملفات التي وعد بتحقيقها. خصوصًا أن التقارير الأمريكية لا تلوح بأي مؤشر إيجابي بخصوص برنامج السوداني ووعوده المثالية!

إن الدولة العراقية بجميع هياكلها المؤسسية تعاني من تدهور خطير لا يمكن إصلاحه بالمستقبل القريب

لا يمكن وصف التركة الثقيلة التي يكابدها العراق خلال السنوات العشرين السابقة. فالبلد خارج أي مؤشر للجودة، وهو مؤشر موزع على جميع القطاعات الخدمية والإنتاجية بعدالة فائقة. حتى أن الكتابة عن حجم الفساد الإداري والمالي في العراق باتت تدعو للخجل. ليس من باب التحفظ والأنفة القومية، وإنما لكثرة الكتابات التي تناولت هذا الموضوع الممل.

من سائق التاكسي إلى أكبر موظف حكومي سيعلمك بالتفصيل عن حجم الثروة المهدورة في العراق خلال عقدين من الزمن. يكفي أن نذكر هذه المعلومة على نحو الإجمال وهي أن حكومات "العراق الجديد" المتتالية هدرت من خلال ميزانياتها الانفجارية أكثر من ترليون دولار دون أن ينعكس هذا الرقم المهول على قدرة العراق الإنتاجية، ولا زال العراق، كما ذكرنا، خارج أي معيار أو مؤشر يدعو للتفاؤل. وعند هذا الحد يكفي أن نفهم حجم الخراب دون الدخول في التفاصيل المعلومة للقاصي والداني.

غير أن رئيس وزرائنا الحالي، وكعادة السابقين، أصر على التصدي لأكثر الملفات الشائكة والمعقدة، والتي تحتاج إلى عدة سنين لإنجازها. ونادرًا ما تجد ملفًا مستثنى من برنامج رئيس الوزراء الحالي، من الصحة والتعليم والطاقة، إلى الخدمات والأمور المعاشية التي تمس حياة المواطن العراقي. لا تجد تفصيل واحد لم يتصدَ له. يكفي أن تذكّره بملف ما وستجد الإجابة السريعة "نعم.. لقد أولينا اهتمامًا بهذا الملف".

 كل شيء سيُنجز في 100 سواء كان ملف تشغيلي أو استثماري. ولو اجتمعت كل الشركات الصينية ومعها باقي الشركات العالمية متعددة الجنسيات، لا يمكنها إكمال مشروع استراتيجي واحد في هذه المدة الزمنية. ذلك أن عدد المشاريع المتلكئة في العراق غير قابلة للإحصاء: التربية، التعليم، الطاقة، الصحة، البطالة، نسبة معدلات الفقر، النازحون، التصحر، ملف المياه، تهريب العملة، والخدمات.. وكل ملف من هذه الملفات يحيلك إلى سلسلة متوالية من التفاصيل المملة، وجيوش من الفاسدين الذين يقفون وراءه. يمكن القول إن الدولة العراقية بجميع هياكلها المؤسسية تعاني من تدهور خطير لا يمكن إصلاحها بالمستقبل القريب.

ليس السوداني فحسب، بل كل السابقين ساروا على نفس المنهج: من قائمة الإعمار والبناء، إلى مشروع "طريق الحرير" الكاذب، والذي تم تسويقه على أنه اتفاقية صينية عراقية، ثم انتهى بها الأمر إلى مشروع مثير للسخرية لا يتعدى مجموعة من المباني المدرسية الذي لم تر النور بعد.

 ومثلما هرول أسلافه ذهب السوداني لتكرار نفس المشهد الممل: الانفتاح على كبرى الشركات العالمية من أجل الإعمار، ثم ينتهي بها الأمر إلى ملف مرميّ في الأرشيف لا يتعدى بضع مذكرات تفاهم لا تغني ولا تسمن من جوع.

آخر ما نصحنا به رئيس وزرائنا الحالي هذا الأسبوع هو عدم القلق بشأن قضية تضخم العملة وارتفاع الأسعار، فقد قال لنا بابتسامة الواثق من نفسه: لا تقلقوا، فالعملة العراقية أقوى من الدولار. وبقرار سياسي محض يتم التلاعب بسعر الصرف، صعودًا ونزولًا، دون مراعاة حجم الخسائر التي ستنعكس على السياسية النقدية، ومنها تقلب أسعار النفط وسد عجز الموازنة. يكفي أن يتم التصويت على سعر الصرف بالشكل الذي يكسب ود الرأي العام.

 بعدها سيخرج السوداني بخطاب منمق يستعرض فيه حجم الإنجازات الوهمية التي قام بها، وسيلتحق بركب الأسلاف، وسيُدرج برنامجه في قائمة البرامج الفضائية دون حسيب أو رقيب. يبدو أن هناك قدر يلف مصائر الساسة العراقيين وهو ألا يحتفظ واحد منهم بسجل ناصع البياض دون أن يلطخه قبل انتهاء مدته.

 هل أنجز السوداني شيئًا يُذكَر في هذه المدة (الصاروخية)؟  هل كان مختلفًا عن أسلافه؟ لا شيء يُذكر سوى المزيد من الترهل الوظيفي وابتسامات واثقة لا نعرف مصدرها حتى هذه اللحظة.