08-يوليو-2019

ظهر علم الأساطير في القرن التاسع عشر وهو يعتبر فرع مستقل من فروع العلم (تويتر)

"إنها حكايات القدماء في الدين"، هكذا عرف زينوفانيس الأسطورة، كما تباين تعريفها حسب وجهات النظر من مفكر لآخر ابتداءً من زينوفانيس مرورًا بسقراط وتياجنس، حتى مرور هذه الكلمة "المطاطية" إلى غربال المفكرين ماكس مولر وهربرت سبنسر.. الخ. حيث اختلف تعريفها فيما بينهم، رأى ماكس مولر مثلًا أن الأسطورة ماهي إلا عجز الفرد البدائي عن التعبير عن ضميره بلسان مبين مفهوم للعامة، فيما عكس تعريف سبنسر الذي اعتبر أن الأسطورة هي عجز العقل البدائي عن استيعاب وفهم الموجودات، حيث لم يكن يملك القدرة على التحليل إلى أبعد من المحيط والحقائق بضوء ذلك المحيط.

رأى ماكس مولر مثلًا أن الأسطورة ماهي إلا عجز الفرد البدائي في التعبير عن ضميره بلسان مبين مفهوم للعامة

وهنا جاءت الأسطورة كاستيعاب لقلق الإنسان البدائي حول الموجودات وكإجابة بدليل عقله العلمي آنذاك، إذ إن العقل البدائي كان المساهم الأول لتفعيل واختلاق الأساطير التي أصبح الكثير منها  فيما بعد من صلب الممارسات الدينية التي نسبت كأصول دين دون التمعن بتاريخها، الأمر الذي أشار إليه عالم الاجتماع إميل دوركايم بقوله إن "كل مجتمع يُوجد لنفسه عادات وأعرافًا وقيمًا اجتماعية معينة تنعكس على الدين الذي يؤمن به ذلك المجتمع".

اقرأ/ي أيضًا: مجتمع الشائعات.. من الأسطورة إلى السوشال ميديا

وهذا ما رأيناه جليًا في مجتمعاتنا وكيف انعكست الأساطير لتشكل ملامحه الدينية، حيث لا يخفى أن الحقائق العلمية تستند على دائرة الخيال كركيزة مهمة لباكورة بحث طموح يضيف للبشرية شيئًا، وهذا الخيال هو الذي يقودنا للبحث والإنتاجية العلمية الملموسة، وبما أن الكائن البدائي يفتقر لمقومات خيالية تسافر بمخيلته إلى أبعد من محيطه، وإلى أبعد من محسوساته، ظهرت الأسطورة التي يركن إليها العقل البدائي آنذاك كركن تفسيري يلجأ إليه، وهنا يختلق أسطورة أركانها "المحسوسات" وما يشعر به داخليًا وما يتقبله المجتمع المحيط. وعند توفر أدوات الأسطورة يعلن عنها كأساس يستند إليها بالتفسير، ولهذا ارتبطت أغلب أساطير القدماء بالدين، بل إن هناك من يعتقد أن الأسطورة هي دين القدماء، وهذا مغلوط جدًا وأكد عليه رابرتسن سمث بقوله إن "الأسطورة ليست جزءًا جوهريًا من دين قديم لأنها ليست في شريعة الدين".

كما أشار ديتيان إلى الاختلاف الجوهري بين الميثولوجيا والدين، حيث اعتبر الأديان هي موئل التطلعات الأسمى وهي عكس الميثولوجيا تمامًا، لكن رغم ذلك سرعان ما تحولت الكثير من الأساطير لعقائد دينية ومتداولة بحلقات نشر، وما زال المجتمع للآن خارجًا عن دائرة العقل وداخل بدائرة "الميثي" في كثير من القصص.  

رغم انتشار الميثولوجيا، فإن العلم الذي تناول الأساطير وضح الجوانب الأسطورية لكثير من العادات والممارسات، إلا أن اعتبارها أسطورة وليس عقيدة بنيوية يتطلب عقودًا من نشر التوعية بجهود تضامنية على مستوى كبير،  وقد أجابت الأساطير عن أسئلة بدائية كثيرة مثل أسئلة خلق العالم.

ومنها الإله بوري الذي ظهر نتيجة أسطورة اسكندنافية رأت أن شمال البلاد ثلوج وجنوبها شمس، فيما هيمنت الشمس وتفاعلت مع الثلوج فنشأ ذلك العملاق مع بقرة لتغذيته، وتزوج بوري وأنجب ثلاث آلهة قاموا بالاتفاق على قتل بوري، فنشأت الأرض من بعض بقايا جسده والبحار من دمه والجبال من عظامه والأشجار من شعره والسماء من جمجمته والسحب من دماغه، وبالرغم كونها محض أسطورة، لكن لو انتبهنا لوجدناها أنها حققت ركائزها ولم تكن عبثية حيث اقترن البحر بالدم وكلاهما سائل, بينما اقترنت الأشجار بالشعر وكلاهما متشابه بصورة ما شكليًا، وإشارة السماء للجمجمة كونها أعلى الرأس والسماء أعلى الأرض وهكذا، وهنا إشادة للعقل البدائي بعدم استناده على عبث بل استند على ركائز بحدود استيعابه.

كذلك أسطورة الخلق الأخرى هي أسطورة مردوخ "إله بابل"، بعد حربه مع تيامات "إله العقاديين" يقسمها لنصفين، أحدهما يخلق منه الأرض والآخر السماء.

- جاء العالم نتيجة تزاوج النجوم الذي كان بأمر إلهي. 

- الأرض أنثى والسماء ذكر كانا متلاصقين مطبقين على بعضهما في حالة هيولي قبل نشوء العالم وبعد نشوء العالم سبب في تباعدهما. وغيرها الكثير من الأساطير التي تناولت خلق العالم سابقًا وتناولت العديد من الأمور غيرها بإطار أسطوري  في كافة نواميس الحياة. بل وحتى دخلت بالسياسة لتشكل ملامح بعض الأيديولوجيات مثل الأيديولوجية النازية التي سيطرت على شعبها بأسطورة "الفوهرر" الملهم وأسطورة العرق الآري المتفوق، والتي تناولهما السواح أنها لا تختص بالدين فقط بل تناولت جوانب حياتية كثيرة وهي موجودة بكافة أصقاع الأرض ولا تختص بالعرب دون غيرهم، فهناك أساطير رومانية ويونانية وسلتية ونورسية.

 خرج من رحم تلك الأساطير إفرازات مجتمع ميثي ما زال يركن في  زواياها بالإضافة إلى علاقته مع الحكايات الشعبية. وبالرغم من هراء بعض الأساطير إلا أنها لا تخلو من الإيجابيات فقد تمكن عن طريقها علماء الاجتماع من معرفة طبيعة الشعوب وطريقة عيشهم وأفكارهم، حيث تمكن الناس من استيعاب الذات البدائية لتضفي طمأنينة وتخلصهم من دوامة الاستغراب.

الأسطورة لا تختص بالدين فقط بل تناولت جوانب حياتية كثيرة وهي موجودة بكافة أصقاع الأرض ولا تختص بالعرب دون غيرهم

ومع تقدم الجوانب العلمية والفكرية والنهضوية والإمكانيات العلمية للإجابة على الأسئلة بدلائل مادية، كان يجب أن تضمحل الأساطير وتتلاشى من المجتمع لنخرج من دائرة الخرافة إلى دائرة العقل والعلم، إلا أننا ما زلنا بدائيين بتمسكنا بالأساطير وهذا يرجع إلى الظروف التي تمر بها مجتمعاتنا بشكل عام.

إن الجدار السميك يحتاج إلى الحصانة الفكرية المسلحة بالصبر لتحطيمه وبإمكاننا حمل فأس الوعي سريعًا لطرق ما بني بمرحلة اللاوعي لنخرج العقول البناءة التي تساهم ببناء مجتمع يرتفع إلى مصاف المجتمعات الإنسانية.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

المهدي المنتظر.. بين الواقع والأسطرة

ماركس والطبيعة البشرية