22-مايو-2020

أصبحت فعاليات محور المقاومة مثارًا للحساسيات الطائفية في الداخل الوطني (AFP)

سنترك تناول مفهوم المقاومة كمنهج وعلاقته بالمتبنين له من حيث سلوكهم على الأرض في المشرق العربي إلى وقت لاحق، ونتناول مناسبة يوم القدس العالمي كفكرة معنوية تهدف للوصول إلى نتائج من الناحية النظرية، وما تنتجه على الأرض من الناحية العملية.

تراجعت القضية الفلسطينية على سلم الأولويات العربية بعد أن تشابكت القضايا بين الدول (غزو العراق للكويت مثلًا) أو داخل الدولة الواحدة

لقد كانت قضية فلسطين ـ مذ نشأت ـ هي قضية العرب المركزية والمحرّك الرئيس للقوى السياسية والشعبية بمختلف مشاربها، واعتلت رأس الخطاب العربي الرسمي وغير الرسمي مع التوهج القومي في الخمسينيات والستينيات؛ ثم اتخذت مسارات أخرى بعد اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل ثم بين الكيان والفلسطينيين في أوسلو.

اقرأ/ي أيضًا: دعوة للتخلي عن فلسطين.. وعن غيرها أيضًا

تدريجيًا، تراجعت القضية الفلسطينية على سلم الأولويات العربية بعد أن تشابكت القضايا بين الدول (غزو العراق للكويت مثلًا) أو داخل الدولة الواحدة على أثر فشلها في عملية التحديث فضلًا عن فشلها في إيجاد حل للقضية القومية المركزية.

صعود الطائفية بشكلها المدمّر خاصةً بعد نيسان/أبريل 2003 مع تثبيت أعراف النظام داخل العراق وتعاطي دول الجوار مع المسألة الطائفية ثم تصييرها منطلقًا سياسيًا أدى إلى شرخ المجتمعات وانشغالها في صراع داخلي ـ قُطري قوّض من الهيمنة القومية بالتالي تقويض التضامن القومي الذي كانت فلسطين إحدى ركائزه الأساسية.

بطبيعة الحال، برزت التيارات الإسلامية بقوة على الساحة في الأجواء الطائفية حتى طغى صوتُها على صوت نظام علماني مثل النظام السوري في الحرب الأهلية بعد عام 2011. وفي ذات الوقت، صار ما يسمى "محور الاعتدال" أكثر جرأة في طرح "الحلول" التطبيعية مع الكيان الصهيوني في إطار العداء المتصاعد مع إيران، حتى انتهى إلى ما هو عليه الآن من عمليات تطبيع علنية مع سبق الإصرار.

سلسلة لاحقة من الأحداث الناتجة عن النقاط المُشار إليها وغيرها أدت إلى خلو ساحة رفض الكيان الصهيوني تقريبًا لإيران والقوى السياسية الحليفة لها، والتي باتت تُعلن ولاءها لـ"الجمهورية الإسلامية" بعد أن انتصرت في معارك على الأرض وهيمنت على قطاعات واسعة في العراق وسوريا واليمن ولبنان، الأذرع المشكّلة لرأس ما يسمى "محور المقاومة والممانعة" الموجود في طهران.

مناسبة لإثارة الجدل

بشكل وبآخر، بات إحياء يوم القدس في الدول التي انتصر فيها المحور النشاط الجماهيري الرسمي المنظّم الوحيد تقريبًا في مساندته لفلسطين من خارجها، بعد أن كانت الشعوب العربية بالعادة تملئ الشوارع رفضًا للانتهاكات الإسرائيلية المختلفة.

لا يوجد هدف واضح من فكرة المرشد الإيراني آنذاك روح الله الخميني بتخصيص يوم الجمعة الأخيرة من شهر رمضان لإقامة تظاهرات ومسيرات منددة بالاحتلال الصهيوني، غير "تضامن المسلمين" وتأييدهم لحقوق الشعب الفلسطيني حسب خطابه الأول في هذا الصدد والفكرة ذاتها كمفهوم.

فشلت فعاليات محور المقاومة والصور المثبّتة على الأرصفة والمسيرات الاستعراضية في إدامة زخم القضية الفلسطينية، بل أنها أنتجت ردات فعل سلبية اتجاه فلسطين

على العكس من الفكرة المُراد تحقيقها، وبغض النظر عن النوايا، صار يوم القدس مناسبةً للجدل والاختلاف بين شرائح المجتمع، خاصةً ممن يُحمّلون المسألة الفلسطينية أسباب النكسات العراقية المتوالية في حقبة النظام السابق، ومع الأداء المنحط للقوى السياسية الجديدة التي ترفع شعار القدس دونما إدراك، أصبحت الشعارات مثارًا للسخرية إضافةً إلى التذكير الدائم بنتائجها استنادًا على الواقع المُعاش البائس.

اقرأ/ي أيضًا: صفر الزمن الفلسطيني

كانت الفعاليات الثقافية في الحقبة القومية تهدف إلى إدامة زخم القضية في أذهان المجتمع العربي، ولأنها عربية الطابع لم تكن تُثير حساسية أطراف في المجتمعات إلا المتواطئة منها مع الكيان الصهيوني إن وجدت.. لم تُسمع أغاني تلك المرحلة في مصر والعراق ولبنان بقطريتها فضلًا عن هويتها الفرعية الأدنى.

مقابل ذلك، فشلت فعاليات محور المقاومة والصور المثبّتة على الأرصفة والمسيرات الاستعراضية في إدامة زخم القضية، بل وعلى العكس، أنتجت ردات فعل سلبية اتجاه فلسطين، من الشعوب الواقعة تحت حكم من يرفعون شعار القضية.

مقابل ذلك أيضًا، أصبحت فعاليات محور المقاومة مثارًا للحساسيات الطائفية في الداخل الوطني، ومثارًا لحساسيات وطنية في الداخل العربي الإسلامي. وهي لناحية تبنيها تثير نفورَ الآخر المحلي الذي لا يرى في السلوك المذهبي طريقًا صائبًا لتحرير القدس، ونفورًا وطنيًا من صور الآخر الدولي، كالزعامات الدينية والعسكرية والسياسية.

للتنظّف والاستفزاز

أضحت تلك الفعاليات مناسبةً للسفاحين والفاسدين الذي أوغلوا في دماء وثروات أوطانهم وشعوبهم ليستعرضوا مبادئهم السامية في تحرير الإنسان من الظلم والطغيان. إنها مناسبة جيدة لأيقونات الخراب والكراهية في سوريا والعراق كي تُلقي علينا محاضرات في أهمية القدس وضرورة النضال من أجل الوحدة العربية والإسلامية في حين أن مجرد رؤية وجوههم على الشاشات فتنةٌ كبرى بين العرب والمسلمين.

بإمكان المرء أن يستطلع ردود الفعل لدى الشطر الأكبر من المجتمع العراقي بمختلف طوائفه حين يرى رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي على سبيل المثال في أي حديث عن أية  فعالية لأية قضية.

ليست فُرصةً لتنظيف الوجوه التي لا تَنظف فحسب، وما أشنع أن يُغسل عار المسؤولين بقميص فلسطين الأبيض، بل فرصة للتعبير عن التخندق في المعسكر "المقاوم" لزيادة ثقله السياسي في المنطقة تقويةً لمصالحه التي لم تزد حبةً في ميزان المصلحة الفلسطينية، وفرصة للتعبير كذلك عن هيمنة في مناطق مغايرة مذهبيًا.

لم تَعد تلك الشعارات تنطلي على أجيال فيس بوك وتويتر ويوتيوب، وصار المعلقون يسألون عن علاقة مبادئ تحرير فلسطين بالفساد والسرقة والقتل والتبعية، ويعقدون المقارنات بين نوع الشعار البرّاق المرفوع ومكانه في مناطقهم الخَرِبة، ويستغربون علاقة محافظة ديالى العراقية المختلطة المتاخمة لإيران بصور عبد الملك الحوثي والفعالية ذاتها التي تقام هناك ليس لمرةٍ. النتيجة أنها مناسبة لاستفزاز أكبر قدر من فئات المجتمع.

تتراكم الانطباعات ـ التي تحمل شيئًا من الصحة ـ في أذهان الناس لتُشكّل يقينًا بأن فعاليات المحور لا تنتج سوى المزايدة والشعارات، خاصةً وهي ثابتة لعقود في ظل تغيّر مستمر لناحية التمدد الإسرائيلي وقضم أراضي فلسطين، واعتراف ترامب بالقدس عاصمة صهيونية وسلبها الطابع العربي والإسلامي بجرّة قلم.

على الجانب الآخر، وجدت الأنظمة العربية ـ التي ترى في قضية فلسطين عبئًا ـ في محور المقاومة الشمّاعة المثالية التي تعلّق عليها دونيتها ومبررات تطبيعها مع المحتل الإسرائيلي؛ وبحجة الصراع مع إيران ألقت عن كاهلها ذلك العبء ليس من أجل السلام كما تدّعي ـ وهي تتسلح بشكل مريب ـ بل لتحويل بوصلة الصراع ضد محور المقاومة بما يُرضي الولايات المتحدة وإسرائيل ويشغل مجتمعاتها عن قضاياها الداخلية والقضية الفلسطينية التي تحمل بُعدًا قوميًا ودينيًا مقدسًا راسخًا، ومثل تلك المناسبات فرصة للتقرب من حائط المبكى ــ لقد اتخذت الأنظمة التطبيعية من محور المقاومة أفيونًا لشعوبها.

لا تضامن في يوم التضامن

أدت الجرائم والانتهاكات باسم قضية فلسطين في سوريا والعراق إلى خلط الناس بين القضية العادلة وظلم متبنّيها، وهذا ليس مبررًا للأنظمة التطبيعية، بل تذكيرٌ بأن نصرة قضية ما عبر التضامن معها يحتاج إلى صناعة تضامن معها بحق، لا زيادة النفور منها، خاصةً إن كان النفور بسبب شخوص المروجين للتضامن.

وجدت الأنظمة العربية ـ التي ترى في قضية فلسطين عبئًا ـ في محور المقاومة الشمّاعة المثالية التي تعلّق عليها دونيتها ومبررات تطبيعها مع المحتل الإسرائيلي

والفكرة التي صُنعت قبل أربعة عقود لم تَعد وسيلة للتضامن بين المسلمين كما أُريد لها، وإنما بين جزء من طائفة من المسلمين، حتى أن الانطباعات المتولّدة حول تلك الفعاليات بالنسبة لكثير من الناس ترى فيها إعلانًا لوجود سياسي/مذهبي يسعى للهيمنة على أراضي غيره، وهو انطباع كارثي يُقلل من شأن الجريمة الإسرائيلية عبر المقارنات والشواهد مع الواقع المحلي الخاص.

اقرأ/ي أيضًا: في معنى أن النكبة ليست حدثًا

لقد كانت مثيلات هذه المناسبات في الحقبة القومية تهدف لصناعة وعي قومي في أجواء من الحماسة العربية، وعلى المرء المتعاطف الآن أن يسأل ماذا ستصنع المناسبات التي تتخذ طابعًا طائفيًا في أجواء طائفية؟ وهل يُمكن صناعة جيل طائفي مقاوم لإسرائيل؟.. تبدو وكأنها نكتة.

لا تُطرح الأسئلة على المنوَّمين مغناطيسيًا بالأغاني الصاخبة التي تتفاخر بحماية المذهب وتردد كلمات "الظلم.. الاستكبار.. إلخ" ، المُداعِبة لمشاعرالبسطاء وذاكرتهم الدينية والاجتماعية، بل على الصاحين منهم، الذين يكنّون العداء عمليًا لأية حركة تحررية ديمقراطية لا تدخل ضمن مشروع ولاية الفقيه ويخوّنونها: هل كان تأثير تضامنكم مع القضية الفلسطينية إيجابيًا على التعاطي الشعبي مع ما يسمى صفقة القرن وخيانة الأنظمة العربية؟ .. هل تراقبون ردود فعل الناس على شعاراتكم؟

وبعيدًا عن القضايا العسكرية وقريبًا من القضايا الثقافية التي تنتمي إليها المناسبة، هل يجد العدو صعوبة في تحقيق أهدافه بالذات في داخل الدول التي تسيطرون عليها بل وفي داخل الطائفة التي تمثل حاضنتكم الاجتماعية؟

إن فعاليات التضامن تهدف إلى التضامن لا النبذ والنفور.. والجواب على هذه الأسئلة المطروحة ضروريٌ لتحديد النوايا المحرّكة وكذلك الغايات.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

مفاهيم مُربكة في الحالة الفلسطينية

النكبة في زمن صفقة القرن