13-أكتوبر-2021

حياتنا كانت مجرد حياة طويلة مع السلاح وتحت سلطة السلاح (فيسبوك)

أثناء المعارك الطاحنة في شبه جزيرة الفاو عام 1986 رفع أحد الرفاق البعثيين من منظّمي "الجيش الشعبي" في الزقاق المؤدي إلى بيتنا، يده ليستوقف والدي العائد من عمله كموظف في "أمانة العاصمة" ليبلغه مع ابتسامة ودودة بأنه سيساق إلى قطعات الجيش الشعبي.

ـ سيستمر مرتبك كما هو.. لا تقلق.

علّق الرفيق الحزبي، ثم أشار إلى مكان التجمّع وساعته في الساحة المجاورة لمقرّ الفرقة الحزبية القريبة من الشارع العام، ليحسم الموضوع كلّه ببضع كلمات، وهي كلمات بسيطة ولكنها قد تكون بوّابة لموت محقّق.

حياتنا وبكل ما يحمله التكثيف من دقّة في المعنى، كانت مجرد حياة طويلة مع السلاح وتحت سلطة السلاح

كان الخبر مثل الصاعقة علينا في البيت، وعلى الرغم من أنني لم أكن في وقتها متصالحًا مع الحضور الأبوي الصارم، إلا أنه بعد غياب أسبوع عن البيت، لأول مرّة في حياته وحياتنا ربّما، صرنا نبكي عليه.

اقرأ/ي أيضًا: قعقعة السلاح تربك المفوضية.. المنطقة الخضراء تعيش ساعات حرجة

سيق والدي من أمام الفرقة الحزبية في واحدة من الباصات الكثيرة التي جمعت رجالًا متوسطي الأعمار وكبارًا في السّن، من حيّنا السكني، صاروا لاحقًا زملاء وحدة عسكرية واحدة مع والدي، وبعد تدريب قصير ألقي بهم إلى فوّهة المحرقة في شبه جزيرة الفاو، حيث المعارك الطاحنة ما بين المحتلين الإيرانيين والجيش العراقي الذي يسعى يائسًا لاستعادة هذا اللسان الملحي الداخل في الخليج.

مات بضعة زملاء لوالدي، من رجال الجيران، وجرح بعضهم، وأصيب بعضهم الآخر بصدمات نفسية عميقة، بسبب مشاهد الموت والدمار المرعبة، وكان حظّ والدي أنه عاد سالمًا إلينا بأعجوبة لم نكن لنصدقها، فهو لم يذهب في نزهة، أو معسكر خلفي، وإنما إلى أقسى جبهة في الحرب العراقية الإيرانية في تلك الأوقات.

بعدها بأربع سنوات، أوقفني رفيق حزبي آخر، وأنا أحمل كراريس الرسم وألوان الاكريلك في حقيبتي عائدًا إلى البيت، ليبلّغني بأن اسمي سجّل في إحدى معسكرات الطلبة للتدريب العسكري. رفضت الذهاب، ولكن والدي خوفًا من الرفاق الحزبيين طلب منّي أن أمتثل. فكانت واحدة من التجارب القاسية المبكّرة التي شوّهت شيئًا ما من منظوري للحياة، ليس بسبب التدريبات البدنية أو تعليم استخدام السلاح، وإنما البيئة الاجتماعية لمعسكرات الجيش التي نقلت بسلوكياتها وقاموسها اللغوي وجوّها الذكوري الحاد ذلك الصبي الذي كان يتابع الرسوم المتحرّكة على التلفزيون بشغف، ليدخل عالم الرجال عنوّة وبكل فضاضة.

كرهت بعمق سلطة السلاح وثقافة السلاح، ورفضت بإصرار أن أقيم أي علاقة مع الأسلحة، حتى مع تعلّمي الاجباري لاحقًا طرق استعمال مختلف الأسلحة في خدمتي العسكرية بعد التخرّج الجامعي، ثم في خدمتي الاحتياط الأولى والثانية التي انتهت قبيل سقوط نظام صدام ببضعة أشهر!

لهذا السبب ربما لم يفكّر والدي مطلقًا باقتناء قطعة سلاح في البيت، ولم يكن لدينا سوى سكاكين المطبخ، على الرغم من الضرورات التي أنتجتها اضطرابات العراق لهذا السلاح، للحماية الشخصية.

لكن حياتنا بالرغم من ذلك، وبكل ما يحمله التكثيف من دقّة في المعنى، كانت مجرد حياة طويلة مع السلاح وتحت سلطة السلاح، من طفولة تحت وطأة الحرب العراقية الايرانية، إلى إرهاب الميليشيات الذي طردنا من بيوتنا في نهاية المطاف.

ويمكن لي أن أزعم أن هناك أغلبية من العراقيين يشاركوني الكراهية المرّة لحياة السلاح هذه، وكانوا يتصوّرون واهمين أنهم سيتخلصون منها في 9 نيسان 2003. لكننا ـ وللمفارقة ـ بعد هذا التاريخ بأيام صرنا نشاهد منظرًا فانتازيًا لأسواق مفتوحة على الأرصفة لبيع مختلف أنواع الأسلحة المنهوبة من مخازن الجيش؛ قاذفات وهاونات وبنادق كلاشينكوف وآر بي كي وبي كي سي وأنواع المسدسات والرمانات اليدوية. وكأننا، من دون أن ندرك ذلك، في سوق تجهيز الحرب الأهلية القادمة.

في الوقت الذي كان يتظاهر فيه مواطنون دانماركيون لإجبار الشرطة على أخفاء أسلحتهم الشخصية تحت ملابسهم، لأن منظرها يمثل نوعًا من الإرهاب الرمزي، كنّا نغطس في غرام مرضي مع الأسلحة، ومثلما كانت في كلّ أدوار حياتنا العراقية السابقة مصدرًا للسلطة التي تسحق شرعية كلّ السلطات الأخرى، فإنها صارت، بأيدي الصبية والشباب من رجال المليشيات في أعوام 2005 وما بعدها، مصدر السلطة الوحيدة في الشارع، والتي على ضوئها يتم تنظيم العلاقات الاجتماعية بين الأفراد، خصوصًا اولئك الأفراد المجبرين على الرضوخ لسلطة السلاح، لا جبنًا في غالب الأحيان وإنما لأنهم لا يجيدون الرد بالسلاح على السلاح، ولا يريدون المجازفة بخسارة ما بأيديهم من أشياء عزيزة في سبيل مواجهة غير مضمونة.

في كلّ المحطات الفاصلة من 2003 إلى أكتوبر 2019 عبّر المجتمع العراقي بوضوح عن رفضه للسلاح، ولسلطة السلاح التي تريد إزاحة السلطات الأخرى. وعبّروا عن كرههم لحامل السلاح الذي يستخدمه لقهرهم أو فرض إرادته عليهم. كان التصويت لحزب الدعوة الذي لم يكن لديه قاعدة شعبية ما قبل 2003 لأنه كان يمثل سلطة الدولة بإزاء سلطة المليشيات الجاثمة على صدور الناس في ذلك الوقت. كذلك هلل الناس وفرحوا لـ"صولة الفرسان" لا تأييدًا لزعيم سياسي وإنما لرغبة عارمة بالتخلص من سطوة السلاح وأصحاب السلاح.

عاد هؤلاء الناس ليصوّتوا لقائمة علمانية وجعلوها تنال المركز الأول في انتخابات 2010 لذات السبب؛ لشعور الناس بأن الأحزاب الاسلامية ليست جادة في إزاحة ظلّ السلاح الثقيل من حياتهم.

وكانت تظاهرات تشرين في جانب مهم منها هي إعلان صارخ ضد السلاح الذي يبني عرش سلطته الاستبدادية على جماجم الناس ومصادر حياتهم وآمالهم وطموحاتهم.

حتى في الانتخابات الأخيرة، فإن الناس عبّرت عن موقفها من السلاح بطريقين متعاكسين؛ الأول مثّلته المقاطعة الواسعة، فهؤلاء احتجوا من خلال المقاطعة على فشل النظام السياسي في السيطرة على السلاح، بل واعتماد هذا النظام الواضح على السلاح وإجرام السلاح في فرض نفسه على الناس.

أما الجزء الثاني من الجمهور، والذي رأى إمكانية للتغيير من خلال الانتخابات، فقد وجّه ضربة قويّة لأرباب السلاح. أو ـ للدقّة ـ لجزء من أرباب السلاح.

كانت تظاهرات تشرين في جانب مهم منها هي إعلان صارخ ضد السلاح الذي يبني عرش سلطته الاستبدادية على جماجم الناس ومصادر حياتهم وآمالهم

حين عدت من المرصد العسكري على الحدود إلى وحدتي الأصلية في الفيلق الثاني في ديالى في منتصف 1996، عوقبت وسجنت بسبب تلف السلاح في الصندوق الخشبي، لأنني تركته من دون تزييت ولا تنظيف مدة سبعة أشهر.

كنت في الحقيقة قد نسيته تمامًا. أعيش في دورة حياة قليلة التفاصيل، وحدي على المرصد الجبلي، أستغرق بالرسم على كراسات ورقية كبيرة أشياء كثيرة لا تذكّر بالسلاح وحياة السلاح.

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

بعد الهزيمة في الانتخابات.. تعرف على أبرز ردود حلفاء إيران

حلفاء إيران يطعنون بنتائج الانتخابات.. وكتائب حزب الله تلوح بالسلاح