02-نوفمبر-2019

وصف المرشد الأعلى علي خامنئي تظاهرات العراق بأنها "أعمال شغب" (فيسبوك)

رغم التباين المذهبي والتوجه السياسي، يندر أن تجد عداءً بين الشعب التركي والإيراني على حروبهم الدموية الماضية، بل يتمتع البلدان بعلاقات استثنائية على كل المستويات، ومنذ العداء العثماني الصفوي، لم تسجل هذه العلاقة توترًا ملحوظًا بينهما. إن التاريخ الدموي بين تركيا وإيران أضحى مقدمة متينة لرسم الحدود وتعميق العلاقات وحسن الجوار وعدم التدخل بالشؤون الداخلية.

 لقد ظلت العلاقات المذهبية بين الشعبين في العراق وإيران هي الأضعف قياسًا بالعلاقات السياسية والاقتصادية، إذ لم تشفع صفة التشيع التي يشترك فيها البلدان من نسيان التاريخ الدموي بينهما

 ثمّة توتر تاريخي معروف بين جمهورية إيران الإسلامية الشيعية وبين المملكة العربية السعودية السنية الوهابيّة، وبالتأكيد يسعى البلدان، بين الحين والآخر، من تحسين هذه العلاقة المتوترة، لكنها ترتطم بمسارات تصادمية، إلا أنها لا تصل لمستوى الاختراق والتدخل بالشؤون الداخلية، وظل الطرفان يتناوشان بينهما بعض الشحن الإعلامي فحسب. وفي الجانب الآخر، التاريخ العدائي المؤلم بين الولايات المتحدة والثورة الإيرانية، ابتداءً من أزمة الرهائن في حينها، ومرورًا بحرب الخليج والحصار، ونهاية بالملف النووي، الذي كانت ثمرته التفاوض مع مجموعة خمسة زائد واحد.

اقرأ/ي أيضًا: نظرة إيران إلى احتجاجات تشرين.. عداء لشيعة العراق

منذ الحرب العراقية الإيرانية، ويوم تحوّل صدام حسين بندقية للإيجار بيد القوى المهيمنة ليعلن حربه على إيران، اختزلت جمهورية إيران الإسلامية تاريخ علاقاتها السياسية والاقتصادية مع العراق بهذه الحرب سيئة الصيت. ولم تكتفِ النخب السياسية الإيرانية بهذا الاختزال، بل ظلت الماكنة الإعلامية تدفع باتجاه عدم النسيان؛ فمن النادر للغاية أن ينسى الشعب الإيراني ما فعلته حكومة البعث، ومن ساندها، بأبنائها الذين فقدوهم في الحرب، ولا زال المواطن الإيراني يذكّر السيّاح العراقيين بهذه المأساة، إذ يمكنك الاستفسار من أي عراقي سائح في إيران، سيؤكد هذه الحقيقة الناصعة.

 لقد ظلت العلاقات المذهبية بين الشعبين هي الأضعف قياسًا بالعلاقات السياسية والاقتصادية، إذ لم تشفع صفة التشيع التي يشترك فيها البلدان من نسيان التاريخ الدموي بينهما.

وعلى أثر سقوط البعث سارعت إيران في وضع موطئ قدم في العراق عن طريق التنظيمات السياسية الموالية لها. وقد يبرر الساسة الإيرانيون هذه السياسة من خوفهم "المشروع" من إعادة السيناريو مرة أخرى، خصوصًا أن الولايات المتحدة، في العراق، تنفرد بأكبر سفارة في العالم، فلا يوجد أي مبرر منطقي للإيرانيين أن يتركوا ثغرات أمنية وسياسية واقتصادية يشغلها غيرهم. ثمّة تربص يستشعره الإيرانيون من الأمريكان، فهم الآن قريبين من بعض، أقرب من أي وقت مضى.

 بهذا المنطق امتد النفوذ الإيراني سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا. ليس هذا فحسب، بل لا تتشكّل حكومة وتحظى بمقبولية ما لم تبارك لها إيران ذلك، إذ يمكن القول، إن الملف السياسي والأمني العراقي، هو ملف إيراني بشكل عام؛ فعديد القوات التي تتمتع بها فصائل الحشد الشعبي يرجع معظمها إلى الإدارة العسكرية الإيرانية بقيادة الجنرال قاسم سليماني ومساعدوه مثل أبو مهدي المهندس وغيره، وهذا الموضوع ليس سرًّا من الإسرار، بل يجاهر به قادة الفصائل العسكرية باستمرار، بل يهددون كل من تسوّل له نفسه بتهديد إيران من داخل الأراضي العراقية، فهم مستعدون للدفاع عن الجمهورية الإسلامية إذا تطلّب الأمر، سواء في العراق أو سوريا، فهذه الفصائل تتمتع بجهوزية عالية للتنفيذ.

يمكن القول إن الملف السياسي والأمني العراقي، هو ملف إيراني بشكل عام؛ فعديد القوات التي تتمتع بها فصائل الحشد الشعبي يرجع معظمها إلى الإدارة العسكرية الإيرانية

 ولا ننسى هنا قوّة الروابط المذهبية التي يمنحها بعض شيعة العراق خصوصية غير قابلة للمساومة، بل عابرة حتى لمفهوم الأمن الوطني، في حين يتجه الرأي العام الإيراني عكس ذلك تمامًا، ويتهم حكومته بهدر المال العام على تشكيلات الحشد الشعبي الشيعي!

اقرأ/ي أيضًا: قاسم سليماني في الخضراء ويترأس اجتماعًا أمنيًا بدل عبد المهدي!

 إن الشعب الإيراني يعتز بقوميته ولا يساوم عليها أو يفرّط بها  بالعواطف المذهبية، والوطن وتاريخه مقدم لديه على المذهب وتاريخه، والدليل أنه لا ينسى الحرب العراقية الإيرانية، حتى لو يحج العراقيون إلى الأمام موسى الرضا، ويتشبثون بضريح الراحل السيد الخميني؛ ثمّة تاريخ من الدم لم تمسحه ذاكرة المذهب.

 بالطبع لا يعني أن الشعب الإيراني يبدي عداوة أو نفورًا تجاه العراقيين، بل العكس هو الصحيح، لكني أتكلم هنا عن ذاكرة حرب لم تنمحي رغم امتعاض الشعب العراقي من هذه الحرب المؤلمة، ورغم ولاء بعض شيعة العراق لمراجع الدين الإيرانيين. رغم العلاقات المذهبية، كما ذكرت، تبقى هذه الذاكرة خطًا أحمر وجرحًا لا يندمل.

كل هذا وغيره ربما يبرره الإيرانيون بـ"فوبيا" العراق، والحذر كل الحذر أن لا يتحول العراق، مرّة أخرى، نقطة انطلاق للاعتداء على إيران. لكن ماذا يعني هذا التدخل السافر في الملف السياسي العراقي، حتى قيل أن العراق "ضيعة إيرانية"، إذ لم يبد الساسة الإيرانيون ارتباكًا تجاه العراق مثل ما رأيناه هذه الأيام، الأمر الذي يجعل مرشد الجمهورية الإسلامية أن يندد بانتفاضة الشعبين العراقي واللبناني ويصفها بأنها عبارة عن "شغب"؟ أكثر من ذلك، حيث وصفها مستشار رئيس البرلمان الإيراني، حسين أمير، بأنها "مؤامرة" أمريكية إسرائيلية سعودية "لتهيئة الأجواء للتدخل الأجنبي في هذا البلد."

هل يمكن لساسة إيران أن يتخلوا، ولو لفترة، من تصلبهم وينظروا ماذا فعلوا من خلال دعمهم المتواصل لساسة العراق الفاسدين؟ برأيي الشخصي، لو استمر الإيرانيون على تجاهل ما يحدث، فسيكون عليهم مواجهة الشعب العراقي، وزيادة مساحة العداء للسياسات الإيرانية، ذلك إن هذه الجيل الذي يقود انتفاضة تشرين الأول/أكتوبر أبدى مواقفه بشكل واضح تجاه السياسة الإيرانية بلا لف أو دوران، بمعنى أن الشعب العراقي بدأ يشاطر الشعب الإيراني بخصوص السلوك السياسي الذي تسلكه النخب الإيرانية في سياستها الخارجية، وأن الشعب العراقي بدأ يرتب سجل أولوياته بهذا الشكل: الوطن أولًا وليس المذهب!

لم يبد الساسة الإيرانيون ارتباكًا تجاه العراق مثل ما رأيناه في التظاهرات، الأمر الذي يجعل مرشد الجمهورية الإسلامية أن يندد بانتفاضة الشعبين العراقي واللبناني ويصفها بأنها عبارة عن "شغب"

إن كانت ثمّة مؤامرة أمريكية إسرائيلية سعودية، فهي السياسات المجحفة والدعم غير المنقطع للتنظيمات والشخصيات الفاسدة في العراق، وجعل الشعب العراقي يستغيث من جراحاته ولا من أحد يغيثه. لقد أصبح العراق بؤرة مخيفة لكبار الفاسدين وبقرة حلوب لمختلف اللصوص، ولا سلطة تعلو على سلطة الفصائل العسكرية، ومنذ ستة عشر عامًا لم يبادر أحد من هؤلاء بتوفير أبسط سبل الحياة، خصوصًا أن فصائل الحشد الشعبي تشكّل أغلبية في البرلمان العراقي.

اقرأ/ي أيضًا: ‎رويترز: ميليشيات إيران وراء إجرام القناصين في العراق!

فليسأل الساسة الإيرانيون أنفسهم: من يغذي هذه المؤامرة في العراق، ومن أوصلنا إلى هذه المتاهة المحيّرة؟!، أما آن للساسة الإيرانيين أن يتنازلوا عن عنادهم، ويقدموا دعمًا حقيقيًا للشعب العراقي، أو على الأقل حث الأحزاب العراقية الموالية لها على الأخذ بالتجربة الإيرانية بالإدارة والبناء، أم أن "الفوبيا" تمنعهم من ذلك؟!

 

اقرأ/ي أيضًا: 

فصائل مسلحة ترفع ورقة السيستاني بوجه الاحتجاجات.. والمرجعية ترد فورًا!

الثابت والمتحوّل في احتجاجاتنا: دروس للمشرق العربي