23-أكتوبر-2019

تساقط المتظاهرون العزّل برصاص القناصين والمسلحين في أجلى مظاهر "اللا دولة" (Getty)

قدمت انتفاضة تشرين (انتفاضة الغضب) في العراق مزيدًا من الدروس للحركة الاحتجاجية العربية، فتشابهت مع مثيلات لها في بقية الدول واختلفت ببعض المميزات المحلية. ولعل الثابت الأكبر في هذه التظاهرة، والمُتكرر في غالب الحالات الثورية، هو الحديث عن "مؤامرة" خارجية تُحاول ضرب المبنى الداخلي. لقد بدا المشهد مربكًا بالنسبة للأحزاب السياسية وفضائياتها وضيوفهم "المستقلين" عنوانًا. عَرفت الأحزاب أن وجوه أعضائهم احترقت، وأن اللحظة غير مؤاتية لظهور رموز الحزب ونوابه للتحدث عن التظاهرات، فتناوب المحللون الذين يعتاشون على العائدات المالية من اللقاءات التلفزيونية تباعًا، يتحدثون للمشاهدين عن مؤامرة تستهدف النظام والزيارة الأربعينية .. إلخ. لكن الأمور تعقّدت لديهم مع إصرار الشباب على مواصلة الاحتجاج والمحافظة على السلمية من جانب، وغياب الدول وأجهزة الإعلام المهمة عن دعم التظاهرات العراقية بالشكل الذي يتناسب مع حجمها من جانب آخر، باستثناء "التغطية" الخجولة. والتغطية ليست دعمًا على أية حال.

عبارة "يجب الحفاظ على النظام" هي المفتاح الإعلامي لتبرير سحق الأبرياء الذين يمثلون "اللا نظام"، كما جرت العادة

 مَنحت تغطية قناة الجزيرة النوعية للتظاهرات المصرية الفرصة نسبيًا للإعلام الحكومي من أجل تخوين الاحتجاجات الشعبية وإلصاقها بالتآمر القطري/الاخواني، وتكررت الحالة (من الناحية الإعلامية) في الأزمة التي فجّرها المُقاول محمد علي مؤخرًا في مصر بوجود الإعلام التركي هذه المرة.

اقرأ/ي أيضًا: انتفاضة الغضب: حين يُفقد الوطن والأمل والعمل!

ذات الحال مع النظام السوري الذي دعم الإعلام الخليجي الاحتجاج ضده، وكان عامل دعمٍ للثورة من جهة، وحجة للنظام لتسويق روايته التآمرية من جهة أخرى من أجل شرخ المجتمع وتخويف قسم منه بالقسم الآخر. لكن زملائهم في العراق لم يجدوا الفرص الكافية هذه المرة. المتظاهرون من المناطق الشيعية، والإعلام العربي لا يدعم بشكلٍ قوي، والسلمية بأسمى مظاهرها رغم الرصاص والقناص، فاستعانوا بتضامن المواطنين السعوديين عبر وسوم على تويتر!.. لقد كان منظرهم مخزيًا لا يتمناه المرء لصديق وهُم يرمون الكرة في ملعب الرياض وحزب البعث وواشنطن في تحريك الشباب، بهستيريا السفهاء.

لقد كان التآمر هو الثابت الأكبر في الانتفاضة العراقية، أما الثابت الآخر هو "النظام". فقد خرج عادل عبد المهدي المُلقب برئيس الوزراء في أول بيان له متحدثًا عن خيار الدولة واللا دولة. وراح إعلام الأجهزة الحزبية بمختلف صنوفه يروّج لضرورة حفظ النظام في مواجهة فوضى التظاهرات والاعتداء على "الممتلكات"، والتخويف من المندسين الذين يعتدون على القوات الأمنية والمتظاهرين. كان هذا الحديث يجري فيما يتساقط المتظاهرون العزّل برصاص القناصين والمسلحين في أجلى مظاهر "اللا دولة".

عبارة "يجب الحفاظ على النظام" هي المفتاح الإعلامي لتبرير سحق الأبرياء الذين يمثلون "اللا نظام"، كما جرت العادة.

المتحوّل الجديد في العراق بسياقه المحلي هم الناس، الشريحة التي خرجت للتظاهر، إذ جرى تخوين تظاهرات 2011 لأسباب عديدة في ذلك الوقت تتعلق بالوضع الإقليمي والمحلي. كذلك، كان من السهل تخوين التظاهرات والاعتصامات في المناطق السنية فقط لأنهم مواطنون سُنة تَنقل القنوات العربية احتجاجاتهم، وبذلك شُرِخت وحدة الاحتجاجات؛ أما تظاهرات العلمانيين، فقد كان مدخل الهجوم عليها هو اتهامها باستهداف الدين ونشر الإلحاد، وتخويف المواطنين المتدينين من مآرب المتظاهرين. ثم حلت تظاهرات الصدريين التي تعرضت للاتهام بعرقلة عمليات محاربة داعش ورفعوا شعار "تحرير الفلوجة أولًا"، وغيرها من الاتهامات.

 استقلالية الشباب المتظاهرين في انتفاضة تشرين، وخلفيتهم الشيعية، ومناطقهم الفقيرة، مصدرَ إزعاجٍ للسلطة ووعاظها وإعلامييها ومحلليها

كانت استقلالية الشباب المتظاهرين في انتفاضة تشرين، وخلفيتهم الشيعية، ومناطقهم الفقيرة، مصدرَ إزعاجٍ للسلطة ووعاظها وإعلامييها ومحلليها، الذين لم يجدوا الطريقة المُناسبة المُقنعة لتخوين مطالب المحتجين ونواياهم، فوضِعت "لكن" بعد كل اعتراف بأحقية مطالبهم، وسُرِدت بعدها محاولات الدول لاستغلالهم من أجل ضرب "الدولة" ونشر الفوضى وافتعال حرب شيعية ـ شيعية.

اقرأ/ي أيضًا: "لا علمانية ولا دينية".. عراقية هويتها الحقوق!

من هنا، نُشير إلى الثابت الآخر، وهو الحقوق. فقد أجمع الأعداء والأصدقاء على أن المتظاهرين الشباب لديهم حقوق مسلوبة يريدون استرجاعها، ووضعت "لكن" أخرى: نحن نعترف بحقوقكم المسلوبة لكن هناك نظامًا ومتآمرين. حسنًا، وماذا بشأن الحقوق المسلوبة بغض النظر عن النظام والمتآمرين الوعود والدعوات؟.. لا جديد يُذكر، بل قديمًا يُعاد.

وفي هذا الاستعراض السريع سنجد أن الثوابت هي "النظام"، وجود "مؤامرة"، وحقوق مسلوبة لا تجد طريقًا للحل. أما المتحول، فهو نوعية الناس التي تُطالب بالحقوق في ظل نظام متعنّت.

ويعني ذلك، أنك كيفما تظاهرت، ومن تكون، وأي الشعارات سترفع، فسيتم اتهامك بالإخلال بالنظام، وتخويفك من المؤامرة، والاعتراف ببعض حقوقك. إنها الثوابت الجاهزة. لكن أيًا من السلطة وإعلامها ومحلليها لم يُخبر الناس بما هو الوقت الذي يتوفر فيه النظام "لوحده" مع عدم وجود المؤامرة ليتسنى لهم المطالبة بحقهم وانتزاعه؟

لكن "من تكون" هنا، المتحول الوحيد وسط الثوابت، كانت له تأثيراته الواضحة في الاحتجاجات الأخيرة. فوجود فئة شبابية مُندفعة بالظلم الذي لحق بها، تُجيد المُطاولة بعيدًا عن مساومات "القادة" في ظل تظاهرات بلا قادة، تَرفع الأعلام العراقية والصور الدينية الشيعية تحديدًا، تنطلق وتتراجع دون توجيهات دينية أو سياسية، ثم تُقمع بالرصاص الحي، أدى كل ذلك إلى تعاطف شعبي غير مسبوق، قد نتاوله في محلٍ آخر.

إن احتجاجات تشرين أول تهديد حقيقي للسلطة من الداخل [ببعده الشعبي] بهذا الحجم، تهديد للزعامات الدينية والمعنوية، تهديد لكل ثوابت النظام

التحوّل الذي طرأ على الفئة المتظاهرة صعّب من مَهمة السلطة في التعامل معهم بالمؤامرة، والتأكيد على شرعية النظام، والاعتراف اللفظي بحقوقهم. تلك الثوابت الثلاثة، اصطدمت بالمتحول "النوع".

اقرأ/ي أيضًا: عفوية احتجاجات 2019.. قواعد سياسية جديدة

إنه أول تهديد حقيقي للسلطة من الداخل [ببعده الشعبي] بهذا الحجم، تهديد للزعامات الدينية والمعنوية، تهديد لكل ثوابت النظام. وهذا بالذات، يُمكنه أن يُبرر وصول القمع في اليوم الثالث للتظاهرات إلى مرحلة "الوحشية".

قَدّمت الاحتجاجات العراقية دروسًا إضافية للاحتجاجات الشعبية العربية، وتحديدًا في منطقة المشرق حيث تتداخل الإثنيات والطوائف في شعب وحدود ونظام واحد، أول وأهم تلك الدروس كان بعنوان "كيف تُهَدَّد السلطة دون سلاح؟!"، وبطبيعة الحال دون استفزازها بلبس عباءة الخصم المُتخيّل "كحزب البعث"، ودون إعطائها صُبغة طائفية يُسهّل استغلالها بشكلٍ عكسي.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

خطاب "الخوف" والقطيعة

سحل العملية السياسية ونهاية العقد "السفاهتي"