15-أكتوبر-2019

فقدت العملية السياسية شرعيتها ما أن بدأت بتوجيه الرصاص الحي على المتظاهرين السلميين (Getty)

في بداية سنة 2014 سُئل رئيس الوزراء آنذاك؛ نوري كامل المالكي، لمَ لا يكشف أسماء الفاسدين، فأجاب: "أخاف على العملية السياسية". قلّة انتبهوا إلى المفارقة المأساوية-والمضحكة مع ذلك- في هذا الجواب. فيه فضيحة مؤداها أن التعرّف على الفاسدين، إعلان أسمائهم أو محاكمتهم بل مجرد اتهامهم أمرٌ من شأنه تحطيم العملية السياسية. فماذا يعني ذلك؟ يعني أولًا أنّ الفساد كامنٌ في صلب هذه العملية السياسية، وأن سحب الفساد منها كفيل بانفراطها. يعني أن هناك عملية سياسية سوف تخرّب إذا أنت كشفت أسماء الفاسدين فيها. قال المالكيّ ـ ولم ينتبه هو إلى ما قال ولم يلتقط قوله أحد ـ إن الفساد هو العمود الفقريّ لهذا الكائن المسمى عملية سياسية. لم يكن جوابه حصيفًا لكنه لم يكنْ كاذبًا.

الخراب القدَريّ

بعد شهرين من تصريحه هذا، احتل تنظيم داعش ثلث مساحة العراق بالتمام والكمال، بسبب فساد السياسيين وعلى رأسهم المالكيّ، لكن العملية السياسية بقيت سليمة معافاة لأن أسماء الفاسدين لم تُكشف، لم يُفضح أحد منهم ولم يُتّهم أحد ولم يحاكَم أحد.

قال المالكيّ قبل اجتياح "داعش" للمحافظات العراقية بشهرين ـ ولم ينتبه هو إلى ما قال ولم يلتقط قوله أحد ـ إن الفساد هو العمود الفقريّ لهذا الكائن المسمى عملية سياسية

خسرنا الكثير الكثير لكننا ربحنا عملية سياسية جوهرها الفساد.

كلّ أمراض العراق اليوم، هي نتاج خسائرنا التي قدّمناها قرابينَ على مذبح العملية السياسية، هذا الفقر، البطالة، أزمات الخدمات، انهيار البنى التحتية، موت الزراعة والصناعة، رضوخ مؤسسات الدولة كلّها لسطوة إيران، تجبّر الميليشيات وتغوّلها واحتلالها الشارع، الرضوض الأخلاقية لدى شرائح مجتمعية، التباين الطبقيّ الهائل، انهيار التعليم، انهيار المؤسسات الصحية. باختصار: كل ما في العراق اليوم بمرضه المزمن وانحطاط قواه كان ضروريًا له أن يحدث لكي تستمرّ العملية السياسية.

اقرأ/ي أيضًا: شرط الدولة المفقود عراقيًا

بؤس العراق اليوم، وبؤس أبنائه يُراد له أن يُفهم باعتباره سيرورة تاريخية حدثتْ تلقائيًا، كأنما مأساتنا لم يصنعها أحد على وجه التحديد، ولا يقف وراءها فاعل يمكن أن يشار له بإصبع اتهام. إنها من صنع لا أحد، كأنما الخرابُ الذي نحن فيه أشبه شيء بالتأثير الجانبيّ للعملية السياسية، تمامًا كالتأثير الجانبيّ في دواء لا بدّ من تعاطيه لدرء الموت. يأخذ المريض بالسرطان دواء يبقيه حياً فيضطرّ لتحمّل آثاره الجانبية من صداعٍ وتنمّل أطرافٍ وشعور بالغثيان، إذ كلّ شيء أهون من الموت. ومقدّر لنا نحن أيضًا التعايش مع خرابنا وبؤسنا العميم باعتباره أثرًا جانبيًا للدواء الشافي الذي هو العملية السياسية.

الاستبداد الديمقراطيّ

عملية يكتنفها الفساد المؤسِّس للخراب، يُراد لها أن تكون هي الدرع الواقي من الخراب. هي الداء والدواء، السمّ والترياق، فهذه العملية السياسية التي جوهرها الفساد صنعتْ كلّ مآسينا التي لا حلّ لها إلا باستمرار ذات العملية السياسية التي تراكم مزيدًا من المشاكل التي يجب ألا يفكر المرء بحلّها إلا عن طريق العملية السياسية.. الخ. في دورة أبدية مغلقةٍ هي وصفة جاهزة للاستبداد، عبّر عنها سلافوي جيجك بقوله البارع "استبداد القرن الحادي والعشرين يحمل اسم الديمقراطية".

بدا الأمر كما لو أننا أنشأنا عقدًا مع السلطة تحافظ هي بموجبه على العملية السياسية، ونضمن لها أن نتجرّع عن طيب خاطر كلّ آثارها الجانبية. وأن نتجنّب على وجه التحديد السؤال عن هوية المسؤول عما يحدث لنا من خراب.

ثمة في الفقه الإسلامي، في باب العقود، فصل يسمى العقد السفاهتي، وهو العقد الذي تكون فيه السفاهة واضحة بينة إلى حدٍّ يُبطل العقد، كالعقد الذي يبرمه البالغ مع طفل أو مجنون، أو العقد الذي يبيعك أحدهم بموجبه شيئًا من ضوء النهار أو التماعة نجمة بعيدة. هناك حادثة طريفة عن عائلة من اليمن الشقيق تعتقد بيقين أنها تملك القمر، وقبل سنوات أهدتْ قطعة شاسعة من القمر ملكًا صرفًا للشاعر العراقي الصديق عبد الرزاق الربيعيّ، الذي لا أظنه سيتمتع قريبًا بهذه الأرض القمرية.

عقدُ الشعب العراقي مع سلطته عقدٌ سفاهتيّ بيّن السفاهة، وكان لا بدّ له أن ينتهي عاجلًا أو آجلًا. بدأتْ بوادر نهايته في شباط/فبراير 2011 ثم تعمقتْ في آب/أغسطس 2013 ثم تمّ تمزيق العقد في تموز/يوليو 2015 وجاءتْ ثورة الشباب في تشرين الأول/أكتوبر 2019 لتحاكم العقد السفاهتي هذا وتقاضي من وضعه ومن استفاد منه.

كلكم حرامية

محنة السياسيين العراقيين، الكبار منهم على وجه التحديد، أنهم في محاولتهم للتعمية على الفساد ولاستمرارهم في "عمليتهم السياسية" الفاسدة لم يسمّوا فاسدًا برغم اعترافهم بالفساد، وقطعوا في الوقت نفسه كلّ أصبع يمكن أن يشير إليه، قطعوه بالجهاز القضائيّ الذي أصبح منذ حكم المالكيّ غرفة ملحقة بمكتب رئيس الوزراء، ثم قطعوه بمكاتب المفتشين العموميين التي صارت قاعاتٍ يلتقي فيها الفاسدون لتقاسم مغانمهم.

سياسيو الفساد فاتهم أنّ حفلة سرقة كبرى كحفلتهم التي استمرت 15 سنة، غير مقدّر لها أن تستمرّ للأبد

الفساد موجود لكنه غير مسمّى، معلومٌ لكنه ممنوع من أن يشار إليه، معترف به لكنْ من دون أن يكون له مصداق وتشخيص، تنشأ له أجهزة فاسدة لمكافحته، ومكاتب تفتيش فاسدة للتنقيب عنه، ورجال فاسدون للتصدي له، وإعلام فاسد لفضحه، وهيئات تحقيق فاسدة للتحقيق فيه، وقضاء فاسدة لمحاكمته، وجهاز أمنيّ فاسد لملاحقته، وقانون يتخلله الفساد لتجريمه "مرة قُبض على وزير من حزب الدعوة بتهمة سرقة مليار دولار فأخرجه رئيس حزبه بكفالة قدرها أربعون ألف دولار فقط". مثال تعاضد فيه الوزير والحزب ورئيس كتلة برلمانية والقضاء وجهاز الشرطة والقانون والإعلام على تبرئة فاسد.

اقرأ/ي أيضًا: خطاب "الخوف" والقطيعة

فات هؤلاء السياسيين أنّ حفلة سرقة كبرى كحفلتهم التي استمرت 15 سنة، غير مقدّر لها أن تستمرّ للأبد، والشعب الذي لم يكن يقدر على تسمية فاسدٍ واحدٍ سيلجأ لخيار هو أعقل الخيارات وأكثرها منطقية، وهذا الخيار يتلخص في جملة واحدة: كلّهم حرامية.

مادام هناك فساد، وما دمت لا أستطيع تجريم فاسد بعينه بسبب فساد القضاء وفساد رؤساء الكتل وفساد الأجهزة المطبقة للقوانين، ومادامت مأساتي تنبع أولًا وأخيرًا من هذا الفساد الذي لا أستطيع تسمية أصحابه فلأجمعهم كلّهم باسم واحد جامع مانع: كلّكم حرامية.

أنتم بدلًا من أنت

في ذروة تظاهرات 2015 كتب عادل عبد المهدي "الذي سيصبح فيما بعد رئيسًا للوزراء" افتتاحية في جريدته العدالة "المفارقة أن اسم جريدته مشتقّ من اسمه فهو عادل وجريدته عدالة"، كتب في الافتتاحية أن شعار "كلهم حرامية" شعار عدميّ لأن من شأنه نسف العملية السياسية كلّها. معيدًا جملة سلفه المالكيّ بصيغة أخرى.

الشعوب ذكيّة، ولاوعيها أكثر تحسسًا للمخاطر من وعيها، ولذا فإنّ ما يلتقطه عامة الناس أكثر دهاء "من الناحية السياسية" مما تتوصل إليه النخبة في أحيان كثيرة، وكان هتاف "كلكم حرامية" الصرخة الأخيرة التي أعلنت نهاية هذا العقد السفاهتي الذي يظلّ فيه المواطن يتألم من دون أن يعرف من هو على وجه التحديد مسبب ألمه، ولذا قرر في لحظة قيامية أن يتوجّه إلى حشد لصوص محتملين صارخًا بوجههم: كلكم حرامية. ففي النهاية لا بدّ من مسؤول عن هذا الخراب. لا بدّ من تبعة أخلاقية تلقى على عاتق أحد ما، لا بدّ من قربان لطرد الروح الشريرة التي أفقرت الوطن وأذلّت المواطن. ومادام ليس من قربان يقال له "أنت" فسيكون القربان "أنتم".

نهاية العملية السياسية

 عادل عبد المهدي نفسه، صاحب جريدة العدالة، ورئيس الوزراء، قتل في الأيام الماضية أكثر من مائتي شابّ عراقي بريء مسالم وجرح أكثر من ثمانية آلاف شابّ آخر، لأنه رأى في تظاهراتهم تخريبًا لعمليته السياسية، ومن أجل الحفاظ على العملية السياسية قام بحفلة الإعدامات الجماعية هذه أمام العالم.

قتلُ العملية السياسية وتخريبها وجعلها ركامًا سيكون عنوان الاحتجاجات المقبلة للشباب الغاضب المجروح بكبريائه بعد حفلات "القنص" والإعدام

بعد هذه المجازر التي صنعها الطاغية الديمقراطي، فات أوان عقد سفاهتي جديد، أظنّ أنّ الشباب في صدد خلق عراق آخر خالٍ من هذه العملية السياسية كما شهدناها منذ 2003. قتلُ العملية السياسية وتخريبها وجعلها ركامًا سيكون عنوان الاحتجاجات المقبلة على ما أسمع وأرى في كلّ حواراتي مع الشباب الغاضب المجروح بكبريائه بعد حفلات الإعدام التي تعرضوا لها.

اقرأ/ي أيضًا: احتجاجات العراق.. صلاة الحقوق المقدسة

سيكون المشهد قاتمًا والمستقبل غير واضح المعالم، لكنْ لن يأتي أحد ويسأل الشباب المحتجّ لم فعلتم ذلك. لأنهم لم يفعلوا شيئًا، السياسيون، الحرامية هم الذين فعلوا.

مرة قام ضابط ألماني بزيارة بيكاسو ورأى في مرسمه لوحته "الغورنيكا" وما فيها من فوضى تصف الحرب وويلاتها، فسأله الضابط باستهزاء: "هل أنت من فعل هذا الشيء؟" أجابه بيكاسو: "لا. أنتم من فعل هذا".

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

عفوية احتجاجات 2019.. قواعد سياسية جديدة

جواب السلطة على "العلم العراقي" رصاصة في جسد المتظاهر!