17-يونيو-2019

الجيش العراقي ينظم مسير المتطوعين لقتال داعش بعد فتوى الجهاد الكفائي (فيسبوك)

لم يكن فقدان الهوية الوطنية، والشعور بالانتماء الوطني للبقعة الجغرافية ككل، والتكتل البشري داخل الحدود مجتمعًا، وحده السبب في انتكاسات العراق الأمنية من بين العوامل الداخلية والاجتماعية، والتي نتج عنها ـ أي الانتكاسات ـ انتكاسات اقتصادية ومجتمعية وقيمية أخرى، بل لازم ذلك الفقدان غياب فعالية الدولة بمفهومها الكلاسيكي. فعالية الدولة التي يدركها المواطن البسيط دون التأمل الفلسفي في هذا المفهوم. الدولة التي تحمي المواطنين على الحدود، وتقضي في نزاعاتهم الداخلية، وتوفر لهم العيش الكريم، وتحفظ كرامتهم وحريتهم وأناهم الإنسانية. ذلك بالإمكانيات المتوفرة لدى كل دولة في العالم. تلك الشروط البسيطة التي تترسخ في ذهن الناس كوظيفة للدولة/النظام، ككيان مستقل بذاته ووظيفته عن تجمعاتهم الأهلية.

يدرك المواطن البسيط فعالية الدولة دون التأمل الفلسفي. الدولة التي تحمي المواطنين على الحدود، وتقضي في نزاعاتهم الداخلية، وتوفر لهم العيش الكريم، وتحفظ كرامتهم وحريتهم وأناهم الإنسانية

يندهش بعض الناس، ومن بينهم الخبراء العسكريون، من سرعة سقوط المحافظات العراقية بأيدي التنظيمات الإرهابية، وتحديدًا سقوط الموصل في حزيران 2014، ويتحدث شاهدو عيان عن عدم وجود أدنى مقاومة من قبل الجنود، بل وحتى الأفراد المدنيين دفاعًا عن مناطقهم، ويقارنها مثلًا بأحداثٍ ومعارك مضت لم تكن الأحوال على ما هي عليه في هذه الحالة.

اقرأ/ي أيضًا: قصة الدولة في العراق: ذلك السؤال الغائب

نعم، إن الهوية الوطنية العابرة للهويات الفرعية، والمفقودة من حيث الإنتاج السياسي والتراكم الثقافي، تُعطينا تبريرًا شاملًا، من غير الدخول في تفاصيل ما حدث في المناطق العراقية الغربية والشمالية. لكن دعونا نُلقي نظرة على ما قاله المفكر الفرنسي جان جاك روسو عن شكل الرابط بين الحاكم والمحكوم في مثل هذه الأوقات، إذ يقول في إحدى كتبه عن العقد الاجتماعي "فمتى ما قال الأمير له (أي للفرد): يُلائم الدولة أن تموت، وجب عليه أن يموت، وذلك لأنه لم يعش في مأمن حتى ذلك الحين إلا وفق هذا الشرط، ولأن حياته عادة لا تكون نعمة من الطبيعة، بل هبة من الدولة مقيدة بشرط". هبة الدولة هذه، وشرطُها هذا، يفسران عملية التفاعل بين الحاكم والمحكوم، وتُعطيِانا صورة مقلوبة عن دور الدولة في عملية تحقيق هذه العلاقة المشروطة، وإنجاز المطلوب منها بوصفها "الحاكمة"، قبل مطالبتها بواجبات المحكوم.

تكمن المأساة العراقية بعدم وجود شرط الحياة الطبيعية للفرد من الأساس، فبالنسبة لعبارة "وذلك لأنه لم يعش في مأمن حتى ذلك الحين"، فإن ذلك الحين هو كل حين بالنسبة لوضع الناس، فمتى كانت النعمة هبةً من الدولة للعراقي؟ وأيُ وقتٍ لم يكن العراقي بحاجة إلى رفع سلاحه وإلا سيموت؟ يُخيّل لي لسان حال المواطن العراقي وهو يقول: هل من أمان أخشى فقده؟ وأي شرط أخشى ضياعه؟

يضطر المواطنون المدنيون دائمًا لتشكيل جيش شعبي وحشد شعبي، ويُشاركون في تعبئة شعبية لأنفسهم ولجيشهم، ومسيرات تضامنية شعبية، لتقوية النظام والتغطية على فشله، ومداراة عيوبه، النظام العاجز عن إثبات وجهة نظره!

عاش العراقيون منذ أربعة عقود أجواء الحروب المختلفة: كلاسيكية، هجومية، دفاعية، انهزامية، ثم أهلية. وعكفت الدولة على استنهاض همم المواطنين للدخول في حربٍ "لحماية الوطن"؛ لكن النتائج كانت وخيمة. ومع أن الدماء سالت من أجل هذه "الحماية"، فأن الوطن، بثرواته، يتناقل بين حكم الاستبداد وحكم اللصوص. لم يعد المواطن يشعر بالارتياح الطبيعي في ظل حكم الدولة. إنها حالة الاغتراب بالمعنى الماركسي. وهذا ما يَهدم أي رابط ذي معنى بين الدولة والأفراد، وبالإضافة ـ طبعًا ـ لهدم أركان الهوية الوطنية الأخرى التي تصنع الصبغ اللاصق بين الدولة والمجتمع.

لن نقول إن شرط الدفاع عن الدولة هو حالة "الرفاه" التي تصنعها الأخيرة للمواطنين، وإن كان ذلك واجبها وأحد شروط ديمومتها، بل حالة التمثيل والشرعية والشعور بالانتماء للحدود المستباحة من جهة، وحالة الاستقرار الماثل في ضمير المواطنين من جهة أخرى، والتي تدفع المواطنين للدفاع عن أراضيهم ضد "عدو خارجي". وللأسف، فأن الأنظمة المُتعاقبة على حكم العراق أجبرت مجاميع من المواطنين للقبول بـ"العدو الخارجي" للخلاص من "العدو الداخلي"، وتلك حالةٌ لا تقتصر على العراق، بل هي مسألة عربية يطول الحديث عنها.

مع أن الدماء سالت من أجل "حماية الوطن" في حروب كثيرة، فأن الوطن، بثرواته، يتناقل بين حكم الاستبداد وحكم اللصوص. لم يعد المواطن يشعر بالارتياح الطبيعي في ظل حكم الدولة

 مع ذلك، فالدولة هنا تُطالُبه ـ أي الفرد ـ بالتضحيات دائمًا، حين كانت تحمي نفسها دون الشعب داخل الأسوار المحصنة، معتقدةً أن الحماية ستدوم طالما أنها في مأمن من الأخطار الإرهابية التي تقطع أشلاء الأفراد في الحياة اليومية عبر السيارات المفخخة والعبوات الناسفة والانتحاريين، خصوصاً وأنها مُنَتَخبة من الشعب، وبالتالي قد حققت عقد التمثيل الشعبي وشرعية المحكوم في ملجأ لا يصله أحدٌ! ..  وما إن حدثت نكسة الموصل، حتى سقط قناع ما اصطلحنا عليه للضرورة "دولة" في ثلاثة أيام، بل وأوشكت هي ـ ككيان ووحدة جغرافية ومؤسسات وشعب واحد على السقوط، وتجلت في هذه اللحظة قضية عدم وجود ذلك العقد الاجتماعي الذي هو أساس التوافق والدافع "في حالة الحرب خصوصًا" بين الحاكم والمحكوم. في الحالة السنية مؤخرًا، وفي الحالة الشيعية في تسعينيات القرن الماضي.

اقرأ/ي أيضًا: عراق "المحاصصة" الطائفية وسلطة ضد الدولة

سارع البديل الديني لربط المجتمع عسكريًا وسياسيًا من جديد، ولم يكن هذا البديل هشًا، لكنه غيرُ دائمٍ لأسباب موضوعية تتعلق في ذات نوع البديل (الديني) الذي يمثل المادة الأساس لهذا الرابط، وتعتلي هذه الأسباب عمليات الانشطار والتشرذم التي تطال هذا النوع من الارتباطات غير العقلانية. ويُمكن أن نضيف "حداثة التجربة بالنسبة للمجتمع الشيعي" على لائحة الأسباب التي تقودنا للتشكيك منذ البدء بعملية الربط الديني للمجتمع عسكريًا وسياسيًا حتى داخل الطائفة ذاتها، وقد بانت بوادر هذا التلف منذ فترة.

وانتصر كذلك، على الجانب الآخرفي المحافظات "المنكوبة"، الطرف الديني بديلًا لحالة الفراغ الذي خلفته الدولة/النظام، بسبب لبوسها الطائفي، والفساد الإداري والمادي والقيمي الذي بات حديث الجميع بعد انقشاع غبار المعركة، في حين كان الحديث عنه محرمًا في ظل المواجهة العسكرية، وقد يُتهم بـ"الدعشنة" كلُ من يُشير بإصبعه إلى حالات الفساد والانتهاكات لحقوق الإنسان والابتزاز والخطف، وهي الحالات التي تمثل الأرضية الخصبة للجماعات التكفيرية للنفوذ من خلالها إلى المجتمع المعني.

بدا المشهدُ واضحًا للجميع. إن الخيار الطائفي ـ بغض النظر عن الحالات أعلاه ـ في تعامل الدولة/ النظام مع المواطنين يُعطي التنظيمات الطائفية شرعية الوجود كـ "ند" موضوعي للدولة. رغم ذلك الوضوح، تراجعت الدولة إلى الخلف، لتُعطي الدور للفصائل المسلحة مذهبية الطابع، التي أخذت شرعيتها الشعبية من فتوى مرجعية دينية مذهبية. وقد سادت تقليعة "جيش عقائدي يُحارَب بجيشٍ عقائدي"، وسيطرت على أذهان ونفوس الناس المرعوبة، وهي من أبرز تجليات انهيار الدولة "وظيفيًا" في ذاكرة المجتمع.

إن شرط الدولة في "حفظ الأمن والكرامة والحرية" سقط في المحافظات السُنية قبل أن تسقط بيد تنظيم داعش. وشرط الدولة في "حفظ الأمن والعرض والمقدسات" أصبح مُهدّدًا بحق، طالما أن الفرد الذي يعمل سائقًا للأجرة اضطر لحمل السلاح لإنقاذ ما تسببت الدولة/النظام في تداعيه.

رغم التهديد والبطش الذي كان يُمارسُه النظام السابق ضد الفارين من المعركة مع إيران في ثمانينيات القرن الماضي، إلا أن الحالة المعنوية للجنود العراقيين على الحدود، لا تُقارن بحالة أقرانهم في حزيران 2014 داخل أراضي دولتهم.

يتداول آباؤنا المشاركون في حرب الخليج الأولى الأحاديثً عن "حياة لا بأس بها" خارج المعارك الضارية في الجبهات. ويُمكن مقارنة هذه الحالة مع ذات الجيش الذي انكسر سريعًا في 2003 بعد النكبة العسكرية في معركة الخليج الثانية، والانتكاسة الاقتصادية في التسعينيات، وتضييق الخناق من قبل الدولة/النظام وبطشها بالمُعارضين.

 فقد النظام السابق شروط الدولة حتى بات عاريًا أمام أي هجمة خارجية. وفقد النظام الحالي شروط الدولة منذ البدء حتى سقطت المحافظات بيد الإرهاب دون معارك حقيقية. ومن المُفارقات، أن الجهات الفرعية هي من حمت النظام من الانهيار الذي تسببت به "فرعية" النظام المذهبية والإثنية على حساب شموليته الوطنية.

تراجعت الدولة إلى الخلف في العراق، لتُعطي الدور للفصائل المسلحة مذهبية الطابع، التي أخذت شرعيتها الشعبية من فتوى مرجعية دينية مذهبية

صار مُلحًّا اليوم أن يدرس العقلاء من الفاعلين السياسيين ـ إن وجدوا ـ حالة الدولة التي تُصارع الموت منذ فشلت في تحقيق تطلعات الناس وخَلق مجتمع مواطنة حديث، وإعادة بناء العلاقة بين المواطن والدولة، وتحقيق شروط هذه العلاقة، ليتنجب العراق ـ وهم كذلك ـ خطرًا قد يُطيح الخيمة على رؤوس الجميع.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الدولة "المفتعلة".. سيرك إقطاع العراق السياسي

نقد المجتمع ليس حقك أيها السياسي الفاشل!