11-أكتوبر-2019

المتظاهرون يكتبون نظرية جديدة انتزعوها من صلب الواقع (Getty)

يسكن التاريخ ويصاب إيقاعه بالشلل والرتابة ثم يأتي الفقراء ليبثوا فيه الروح ويحركوه!. في العراق ليس المثقف من يحرك التاريخ، بل الفقراء، وتأتي الأمور معكوسة: إذ يحرك الفقراء حدثًا جديدًا نستلهم منه العبر. الحدث التاريخي لا يعتبر لحظة عابرة تمامًا، وإنما يمدنا بأفق جديد للتفكير، وكل هذا بفضل الفقراء.

بفضل الفقراء وشجاعتهم ونبلهم يتحول المثقف من مفكر متعالي عن الواقع، إلى مفكر يستلهم مفاهيمه من الواقع

 بدلًا من التفكير المجرد والمتعالي عن الواقع، يوفر الفقراء واقعًا عابرًا للطرح المجرد، فلو كان هناك مفكر حقيقي سيحلل هذا الحدث ويؤطره بمادة فكرية خصبة. بعبارة أخرى: الفقراء يصنعون الحدث، والمثقف -إن وجد- يفكر من خلال هذا الحدث، ليستحدث آليات تفكيره. بفضل الفقراء وشجاعتهم ونبلهم يتحول المثقف من مفكر متعالي عن الواقع، إلى مفكر يستلهم مفاهيمه من الواقع.

اقرأ/ي أيضًا: شباب العراق يعزلون عزلته

فيما سبق، كان هناك خطاب نتلمس فيه نوعًا من التعالي، وكان البعض يشتم الناس البسطاء لأنهم "قطيع"، (ولأنهم لا يصيّفون في البلدان السياحية ولا يشترون الماركات الباهظة الثمن ولا تعنيهم الأضواء وسفارات الدول الكبرى). لكن اليوم وفي هذا الحدث الاحتجاجي لا نجد مثل هذا الخطاب؛ فلا صراع شخصي في التظاهرات، ولا تخوين لجهة على حساب جهة أخرى (حفظًا لماء الوجه)، ولا شخصية قيادية متوفرة لكي نسقط عليها خصوماتنا الشخصية. المهم في الأمر أنها فرصة مثالية وفرها لنا الفقراء لنتعلم منهم طرق التفكير الواقعية، نحن الذين لا يعجبنا شيء سوى الأضواء البراقة.

المولود الجديد

بعد الإفلاس العام الذي منيت به القوى السياسية وهي تخسر أثمن رأس مال، وهو الطائفية، والتي كانت تدخره لأيام الشدة!، خلف وراءه منطقة ضبابية ومشوشة. هذه المنطقة هي مولود الوطنية الجديد، إذ بدأت ملامحه تلوح في الأفق بعد أن أخرجته جموع المتظاهرين إلى العلن. لو تأخرت هذه المنطقة الغامضة لأخذت بنا مسارات متعرجة نحو خطابات فئوية ضيقة، لذا قام المتظاهرون باستنطاق هذا الوليد الجديد الذي حل محل الخطاب الطائفي.

المتظاهرون يكتبون نظرية جديدة انتزعوها من صلب الواقع؛ إنها نظرية الوطن، تلك البقعة الجغرافية التي تربطنا بها ذاكرة عميقة، ولا يمكنها تحمل سموم الخطاب الطائفي. لا أقول إن الخطاب الطائفي ولى من غير رجعة، ولا ادعي بروز الخطاب الوطني بشكل مطلق، وإنما هي حالة مخاض عسيرة جدًا وقد تأخذ مسارات متعرجة، ومن ثم يكتمل هذا المولود. كما لا ادعي بأن هذه المظاهرات ستغير المشهد السياسي، وإنما أتكلم عن مقدمة أسّس لها الفقراء، وكانوا هذه المرة هم القابلة المأذونة التي سحبت مولود الوطنية من أحشاء الطائفية، فحتى لو انتهت التظاهرات، فقد وضع لنا الفقراء اللبنات الأولى، والطريق طويل بلا شك.

صلاة الفقراء

من السمات الرئيسية للحدث الاحتجاجي تبرز ميزتان رئيسيتان بشكل ملحوظ:

تطوير الوعي السياسي الجمعي وعبوره حالة النخبوية، وابتعاده عن الصراعات الشخصية (نتمنى أن لا تحصل مستقبلًا!)، وظهور شريحة الشباب كأبرز مؤسسين لهذا الحدث المهم.

 2ـ إن كل التراكم الذي بدأ مساره منذ 2011، هو مسار يفضي بنا إلى ظهور معالم حركة اجتماعية آخذة بالتشكل تدريجيًا، قوامها طبقة الفقراء والمعدمين، وفئات اجتماعية أخرى وجدت نفسها مخدوعة في هذا النظام القائم على المحاصصة التافهة، فيحاولون قدر إمكانهم رفض هذا النظام والمطالبة بنظام ديمقراطي عادل ومنصف. هي ملامح حركة اجتماعية لم تكتمل بعد ولا ضمانات في ديموماتها مالم تتحول إلى طريقة تفكير متجذرة، ذلك أن الحركات الاجتماعية تظهر في مجتمعات تفتقر للديمقراطية. ويمكن أن يطاح بكل هذه الحركة برمتها إن ظهر لها "آباء روحيون" جدد يحاولون التحكم بزخم الاحتجاج، ويقسمون الناس إلى فسطاط إيمان وفسطاط كفر.

 يمكنني أن ألتزم بإخلاصي العقائدي من جهة، والنضال من أجل حقوقي المقدسة من جهة أخرى

المرحلة القادمة هي بلا شك مرحلة ما استطيع تسميته "علمنة الحقوق". والمقصد من هذه التسمية هو محاولة لتجديد وعي المتدين بحقوقه الدنيوية ولا يكتفي فقط بالعطايا الغيبية، فالعلمنة نعني بها أبراز الطابع الدنيوي للحقوق المنسية، وأن لا نتحول إلى كائنات غيبية في نشاطنا السياسي؛ طاعة عمياء بلا حقوق.

اقرأ/ي أيضًا: الحقوق المقدسة في ضمير المتديّن

من هذه الناحية لم نأت بشيء جديد، لأن المتدين يعلم جيدًا أن نعيم الدنيا أمر قد ركز عليه الدين الإسلامي ووضحه القرآن "ولا تنس نصيبك من الدنيا"، "قل من حرم زينة الله".. فلست في صدد مفاضلة معيارية حول أي النعيمين أكمل وأبقى، لأننا في صدد الحقوق السياسية والاقتصادية، بعيدًا عن العوالم الزهدية (التي يحتاجها الحكام أكثر من المواطنين). لذا نضطر أن نوضح الواضحات بسبب فقدان الوعي الاجتماعي والسياسي وطول الغيبوبة التي نمر بها، فضلًا عن التحديات الجسيمة، حيث تتجاوز إمكانياتنا المحدودة مقارنة بالأجندات الخارجية.

على اي حال، نحن العراقيين، المنضوين تحت ظل المراجع الدينية والقادة السياسيين، علينا أن نفصل بين وساطاتنا الدينية التي نرتبط بها عقائديًا، وبين حقوقنا الدنيوية، إذ لا تضارب بين الاثنين؛ يمكنني أن ألتزم بإخلاصي العقائدي من جهة، والنضال من أجل حقوقي المقدسة من جهة أخرى. وعليه تكون الصيغة كالتالي: إن حبي  وولائي المخلص لقائدي يدفعني ان أكون واعيًا بحقوقي لأني لا أقبل الذلة مثلما أرددها بالزيارات الحسينية.. فلتكن صلاتي صلاة الفقراء، صلاة الحقوق المقدسة، فالفقر كافر ولئيم ما إن يسلط جبروته على وجدان المرء حتى يحيل حياته إلى عدم مطلق.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

ماذا فعل "شيعة السلطة"؟

عن العدالة والاستبداد في واقعنا العربي