04-أكتوبر-2019

تريد السلطة أن يتوسع العنف ويُرد عليه لتبرّر ما تقدم عليه من عنف وحشي (Getty)

مضت أربعة أيام والاحتجاجات مستمرة في العراق، ولا أعرف إذا كنت استطيع أن أوصّل الصورة لكم بأمانة في هذه المقالة البسيطة، لكن في شوارع بغداد، وهذا ما أشاهده في عيني كمتظاهر وصحفي يسمع صرخات الشباب التي يبتلعها الفضاء، ولا يسمعها أي أحد لأننا في قرية معزولة، تحول النهار فيها إلى ليل بهيم وموحش؛ هل لكم القدرة على تخيّل أين تذهب الصرخات التي لا يدري بها أحد من العالم؟ هل تعرفون لونها؟ ما نعرفه الآن هو اللون الأحمر، نحن غارقون في مجاري الدم، ونتنقل بين روائح اللحم البشري الذي لا زال على أسفلت الشوارع التي تكتب محادثة فريدة بين مجرمين وضحايا مظلومين. ولأول مرّة في حياتي شاهدت الدم المختلط بمادة الدماغ البيضاء لشاب يرتدي حذاء ممزق، ومع هذه الصورة المأساوية، كانت رائحة الحلم بأعلى درجات الكرامة والسمو.

لا يفهم النظام السياسي في العراق الجيل الشبابي الجديد. جيل محتج، غاضب، هويته الحقوق فقط، ولهذا ليس لها لغة للتواصل معه غير الرصاص

بدا العنف في اليوم الأول طبيعيًا نظرًا لسياق الاحتجاج العراقي، والذي دائمًا ما ينتهي منذ عام 2009 بجولة من جولات العنف، لكن شهيدين سقطا، لا ندري إن كانوا أكثر إلى الآن، كوننا في عصر ما قبل التكنولوجيا، نعرف الأخبار عبر تواصلنا في الشوارع، وتنقلنا في المستشفيات التي تعرض صورة مما يحدث. أب كئيب ومكسور، أم فاقدة تصرخ، وأولاد ينزفون على بطّانيات متسخة، وشباب يتراكضون على "ثلاجات الموتى" بحثًا عن أصدقائهم الذين فقدوا القدرة على رؤيتهم وسط أجواء الضجيج التي يفرضها الهروب من الموت الذي لا هروب منه.  

اقرأ/ي أيضًا: السلطات العراقية تصعد عمليات قمع المتظاهرين العزل وتخرق الدستور.. أيضًا!

في ليلة مرعبة، وبعد أن كان الدم هو اللغة الوحيدة التي تتواصل السلطة بها مع المتظاهرين، خرج رئيس الوزراء العراقي، عادل عبد المهدي، يمن على العراقيين بأنه رفع "الكتل الكونكريتية" من بغداد وقام بتقليل عدد سيارات موكبه؛ كأنه يقول: ألا تستحق هذه الإنجازات أن تصمتوا أمامها، وإن كثر الفساد وانعدمت الخدمات وغابت فرص الحياة كلها أمام الشباب. كان الرد مستفزًا. قالوا في الساعة الحادية عشرة مساءً إن رئيس الوزراء سيخرج في خطاب للمتظاهرين، تأخر الخطاب لساعات، كأن شيئًا تغير، وخرج الخطاب ممنتجًا، قطعت منه أشياء، وغير مترابط، ربما أراد أن يقول الرئيس شيئًا آخر وتغيّر بإرادة ما، يبدو من خلالها يد "ميليشاوية" تتحكم بحركات الرئيس، هي اليد ذاتها التي تعتقد أن خطة تستهدف "الطائفة" أعدها شباب هم أنفسهم الذين خرجوا بفتوى من مرجع "الطائفة" للدفاع عن البلاد، والحفاظ على كيان الدولة التي يحكمها هذا النظام. أشار عبد المهدي في خطابه إلى "مؤامرة" تحدث، وتهديد للنظام، وهي صورة عن الشكل السياسي الميّت والمتحجر لهذه الحكومة، وكيف تتعامل مع شباب لم يبلغوا الحلم. سقط اليوم أحد الشباب من مواليد 2000، هل هذا يهدد النظام؟

لا يفهم النظام السياسي في العراق هذا الجيل الشبابي الجديد. جيل محتج، غاضب، يبحث عن وطن يعرف أنه سيكون أفضل فيما لو استثمرت ثرواته بشكل صحيح، ولهذا ليس للنظام لغة للتواصل معه غير الرصاص، ليس له لغة غير التخوين وأنه مدعوم من السفارات بالرغم من ملابسه الرثّة، وعدم امتلاكه لأجرة النقل من بيته لساحات الاحتجاج. يعرض هذا الجيل صورة وطنية أحجم نظام الطوائف عن صناعتها. اختلاط دمائه بالشوارع وتحطم أجساده الهشة أمام صخرة الواقع السياسي الفاشل، وصراخه اليائس بعد أن قال الجميع ليس ثمة ما يستحق أن يكافح من أجله. جيل جديد ربما يكون الصرخة الأخيرة في نظام سياسي غارق بالفساد وعاجز عن تقديم أي شيء سوى صناعة "العدو"، والأكثر من ذلك، فاشل في تصدير هوية سياسية للدولة، يحمل هذا الجيل في أحشائه مقابل كل هذا، مجتمعًا جديدًا لا يقتنع بخطاب الطوائف و"الاستكبار" أو "الشيطان" الذي يهددها.

ولأن الكتل السياسية المسيطرة على النظام تعيش أزمة الإنجاز بالمعنى الحقيقي، إذ لا يوجد ما تقدم به نفسها غير البعد الطائفي والعرقي، وتعجز الآن عن تقديم الحلول، تبرّر ما يحصل بتبرير قديم استخدمه الكل: الخراب موروث من الحكومات السابقة، لكنها وليتها اكتفت بالتبريرات، قامت بموجة من العنف جديدة لم يشهدها العراق في السنوات التي مضت، موجة لا زلنا نعيش في صدمتها المميتة. نحن لم نفق إلى الآن من صعود القنّاصين على المباني. بدأوا يصطادون الرؤوس، وهو أمر يشير إلى حقيقة اعتقاد النظام السياسي أن الشباب من ذوي الجيوب الخاوية والملابس الرثة، فعلًا "يتآمرون"، وبالتالي، لا بد من صناعة الرعب بهذه الطريقة التي يحمل فيها كل شاهد على مأساة اليوم، عشرات الشهداء والجرحى على أكتافه.

القناصون، منعوا حتى المسعفين من إنقاذ الجرحى الذين لم تتوقف قلوبهم بعد من الإصابة وهول الصدمة التي يعرضها هذا التوحش المريع في المواجهة مع أبرياء. كان المشهد مرعبًا بحق، يسقط الشباب كالأغصان الندية عندما يدركها أيلول دون منقذ أو صديق. تريد السلطة أن يتوسع العنف ويُرد عليه لتبرّر ما تقدم عليه من عنف وحشي لم يستخدم إلا مع "داعش" وأمثالها. هناك فرق كبير بين الرعب بصورته الواقعية، والرعب بصورته المروية والمكتوبة. حتمًا أن المكتوب سيغيّب أسئلة الشباب وهم يركضون وراء الحياة، لكن القنّاص لم يمنحهم هذه الفرصة وهو يفرّدهم حلمًا تلو آخر. تكسّرت ظهور البعض أمامي هذا اليوم، يركض الشاب منهم نحو حاجز يخلّصه من الرصاصة، لكن الأخيرة تأتي في ظهره، فيسقط، ولا منقذ بين الحشود التي يتعامل معها القنّاص كفريسة سهلة، ولا بد من الإيقاع بها. يا لوحشة الرعب الذي لا أستطيع أن أصوّره!

قطعت السلطة اتصال العراقيين بالإنترنت الذي يعطي زخمًا للاحتجاج بالعادة، قطعت الشوارع والحركة كذلك، لكن الشباب تواصلوا في التظاهر، اخترقوا الحجب الإلكتروني، كما أنهم اخترقوا قطع الطرق، ليقولون: نحن هنا فوق العزلة، فوق الدم، وفوق ضخامة الرعب والفظاعات التي تفقد كل الأشياء هيبتها أمامها. 

لا يبدو أن هذه الاحتجاجات ستنتهي مع هذا الإصرار وعناد الجيل الذي خرج من تراكم عمره عقد ونصف

لا أدري إن بقينا أحياء في الأيام المقبلة دون اعتقال أو رصاصة تفلق رؤوسنا التي تتعاظم فيها الأحلام والأسئلة دون جواب. لكن لا يبدو أن هذه الاحتجاجات ستنتهي مع هذا الإصرار ومواصلة النشاط الاحتجاجي بالصراخ. هناك الأعلام العراقية التي ترفرف على أكتاف مراهقين يواصلون حراكهم بإرادة صلبة، مواجهة فريدة بين الرصاص واللحم العاري، البريء. هناك نصر سيكتبه الشباب الذي لم يخرج بتأثير من النخب الثقافية أو طبقات المنتفعين من المسميات الرديفة، التي فشلت جميعها فشلًا ذريعًا بأدنى الأدوار في الشأن العام. هؤلاء الشباب خرجوا من تراكم عمره 16 عامًا، نستطيع أن نقول إنهم يؤسسون لهوية جديدة لم يألفها العراق في حقبة ما بعد الغزو الأمريكي، شباب يشعرون بالغبن، فيجتمعون، يقف الكل ضدهم مع قمع وحشي، فيثبتون وجودهم بشجاعة مفرطة، وربما، يغيّرون مالم تستطع النخب ـ سياسية ودينية وثقافية ـ تغييره طوال عقد ونصف. إنه نصر الحقوق على الطوائف، صعود الوطنية على المحاصصة والانقياد للخارج. إنه العناد العراقي الجديد الذي لا يعرف المستحيل. 

أكتب لكم من بغداد التي فيها الكثير من الدماء والضحايا.. أكتب لكم من "المجزرة" التي لا أدري ماذا يقول العالم إذا شاهدها إن قررت سلطة القنّاصين إعادة تواصلنا معه. 

 

اقرأ/ي أيضًا:

كيف نتقدم؟.. سؤالنا الراهن

سلطة المحو في العراق