23-سبتمبر-2019

كل نظام يأتي، يقدم على عملية مسح لكل ما يرتبط بالنظام الذي سبقه (فيسبوك)

عام 1964 أصدرت المحكمة العسكرية العراقية حكمًا بالإعدام شنقًا على السيدة نزيهة الدليمي - أول وزيرة في العالم العربي - والتي كانت تتولى مسؤولية وزارة البلديات. ما أحبُ تسليط الضوء عليه هو أسباب هذا الإعدام ومُبرراته، وأعني بالأسباب التُهم التي وجّهت للسيدة الدليمي. سأستعرض أحد فقرات الحكم الخاصة بهذه المحاكمة، لغرض فهم ومناقشة لغة الخطاب فيها، حيث جاء في قرار الحكم: إن "المتهمة وهي وزيرة البلديات في عهد قاسم المندثر، كانت تصدر الأوامر والتعليمات بدافع حزبي لمصلحة بعض موظفي وزارة البلديات خلافًا لما تتطلبه القوانين والأنظمة المرعية، وعلى سبيل المثال نذكر موافقتها على تعيين غالية الياس كاتبة الطابعة وهي دون السن القانوني المقرر للتعيين وموافقتها على استخدام الفرّاش سلمان عباس قبل إكماله الشروط المطلوبة للتعيين قانونًا".

أمبرتو ايكو: الحركات الرجعية تستدعي ما يخدمها من الماضي فقط، بينما ستسعى الحركات الثورية لمحو الذاكرة تمامًا "لنمحو كل شيء ونبدأ من الصفر"

يتحدث أمبرتو ايكو في لقاء تلفزيوني عن فهمه للحركات الرجعية والثورية، يقول إن الحركات الرجعية تستدعي ما يخدمها من الماضي فقط، بينما ستسعى الحركات الثورية لمحو الذاكرة تمامًا "لنمحو كل شيء ونبدأ من الصفر".

اقرأ/ي أيضًا: عن العدالة والاستبداد في واقعنا العربي

في محاولة لمقاربة فكرة إيكو على الفقرة الأولى من قرار الحكم - نص السلطة - الخاص بإعدام السيدة الدليمي، من الممكن ملاحظة منهج الخطاب الثوري، حيث تشير أول كلمات القرار لعملية إقصاء ومحو واضحة في جُملة "عهد قاسم المندثر".

الاندثار هنا. يشمل كل ما هو مرتبط بزمن حكم عبد الكريم قاسم. وعلى الرغم من أن القرار لم يُنفّذ - بسبب هروب نزيهة الدليمي - إلا أن هذا الإعدام الذي واجهته الوزيرة، يُمثّل بالضبط عملية المحو الثوري للدولة ومؤسساتها التي تحدّث عنها إيكو، فليس من المعقول أن يُعدم وزير لأنّه وظّف كاتبة طابعة أو فرّاش بطريقة تحتمل وجود شُبهة قانونية. كان السبب الحقيقي هو أن الوزيرة شيوعية.

وبطبيعة الحال لم يكن حكم الإعدام السابق هو البداية الأولى لعملية المحو، فعلى أرض الواقع وحرفيًا، محا عبد السلام عارف كلّ أثر مادّي لعبد الكريم قاسم، حتى جثّته تم محوها وسحلها على أسفلت شوارع بغداد بعد إعدامه. كان خطاب 8 شباط 1963 يبتدئ بهذه الكلمات "لقد تم بعون الله القضاء على حكم عدو الشعب عبد الكريم قاسم وزمرته المستهترة التي سخرت موارد البلد لتطمين شهواتها وتأمين مصالحها فصادرت الحريات وداست الكرامات وخانت الأمانة وعطلت القوانين واضطهدت المواطنين".

استند عبد السلام عارف في قرار إعدام عبد الكريم قاسم والوزيرة السابق، على "قانون معاقبة المتآمرين على سلامة الوطن ومفسدي نظام الحكم" لسنة 1958 وهو قرار أقرّه واستخدمه عبد الكريم نفسه لإعدام أو حبس الكثير من رجال العهد الملكي بل حتى من زملائه الضباط، وبطبيعة الحال لا جهة غير "سلطة الثورة" تحدد معنى التآمر، أو من هو المتآمر على سلامة الوطن. إنه محو متبوع بمحو ولا شيء غير المحو.

ويبدو أن القرار "معاقبة المتآمرين على سلامة الوطن" قد أحدث فرقًا كبيرًا في التعامل الصحفي مع المسؤول التنفيذي الأول في الدولة العراقية، فقبله - قبل 1958 - كانت الصحف تهاجم رئيس الوزراء شخصيًا أو تهاجم الأحزاب الاخرى، لكن بعد ظهوره وإقراره كقرار رسمي، أصبحت الصحف القومية والتي كانت تُسمي الشيوعيين بالفوضويين أو الصحف الشيوعية والتي كانت تُسمي القوميين بالرجعيين، أصبحت هذه الصحف تُجمع على الاستشهاد بمقولات عبد الكريم قاسم وتدّعي انتسابها لخطّة. وفي الوقت نفسه تهاجم بعضها بعضًا.

إن هذه اللحظة التي استُثني فيها عبد الكريم قاسم من النقد - تحت ظل قانون معاقبة المتآمرين على سلامة الوطن - هي في الحقيقية لحظة موت الصحافة العراقية. 

كل نظام يأتي؛ يقدم على عملية مسح لكل ما يرتبط بالنظام الذي سبقه.. إنه محو متبوع بمحو ولا شيء غير المحو منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة

في الموصل عام 1959 قام مجموعة من ضباط الموصل بمحاولة للانقلاب على عبد الكريم قاسم سُمّيت بما يُعرف بانقلاب الشواف - بعد عام 1963 أصبح اسمها ثورة الشوّاف - قمع قاسم الانقلاب وقصف الموصل. في العام نفسه وبعد اخماد الانقلاب/الثورة، صدرت تعليمات خاصة لمناسبة الاحتفال بمرور عام على ثورة 14 تموز، كان منهاج الاحتفال يتضمن عدّة فعاليات أبرزها "في الساعة الخامسة وخمس وخمسون دقيقة صباحًا تبدأ الجوامع بالتكبير والكنائس بقرع النواقيس، والسيارات بنفخ الأبواق ويقف أبناء الشعب ثلاث دقائق يهتفون بحياة جمهوريتنا الخالدة. مساءً تقام الدبكات وحلقات الرقص والأهازيج في أنحاء المدينة الباسلة مقسمة على مناطقها الخمسة تساهم فيها كافة المنظمات والنقابات والمدارس وأبناء الشعب عامة".

اقرأ/ي أيضًا: أزمة الاستبداد.. اغتيال الصحافة في الرواية العراقية

الآن لنتخيل كيف سيكون شكل الفرح في مدينة قُصفت قبل أشهر بطريقة مُكثّفة خلّفت فيها ضحايا من قتلى ومعاقين، أرامل وأيتام، يُجبر أهلها على "محو" حزنهم والاحتفال، بل والهتاف بحياة الجمهورية الخالدة. أليس هذا محوًا يتجاوز الدولة ومؤسساتها ورموزها ليصل حتى لمحو المشاعر؟ إن أوامر الفرح هذه هي مصداق لقول الصحفي والسياسي جيوفاني أمندولا أن "هذه الروح - الشمولية - لن تسمح ليوم جديد أن يبزغ فجره دون أن يلقي التحية الفاشية كما لن تسمح للحقبة الحالية أن يكون بها إنسان ذو عقل وضمير لا يركع على ركبتيه ويعترف: أنا مؤمن".

لكن عملية المحو لا تتوقف هنا، ففي العام 1963 بعد نجاح انقلاب عبد السلام عارف، كتبت جريدة الرقيب الموصلية مقالًا بعنوان نهاية الخونة جاء فيه "قبل أيام تدلّت جثث الخونة من على المشانق ونالت مخلوقات مشوهة ارتضت لنفسها الابتعاد عن آدميتها نالت مصيرها المحتوم.. الموت والإعدام شنقًا". الذين كانوا ضحايا تحوّلوا بعد إطلاق أيديهم من قبل السلطة لوحوش. ويبدو أن السلطة في العراق الحديث لا تتعامل مع الشعب إلا بجعله ضحية أو قاتلًا.

وبالعودة لثورة 1958 فلم يكن فعل المحو محصورًا بالدولة ورموزها أو حتى المشاعر، بل تجاوزه لأسماء المناطق والمدن، فبعد 10 أيام من الثورة، صدرت تعليمات بتغيير أسماء الشوارع والجسور والساحات، لكن الصيغة التي كُتبت بها البيان ستكشف عن الرغبة المحمومة للمحو بشكله الحقيقي المُجرّد "تجاوبًا مع روح الثورة وأهدافها في اجتثاث آثار العهد البائد قرر مجلس الأمانة تبديل أسماء الشوارع...".

إن جملة "اجتثاث آثار العهد البائد" توحي بالقسوة، وبالقوة والرغبة على تأكيد المحو. فحتى الملك غازي الذي كان يقف بالضد من نوري السعيد وبريطانيا، تم تغيير الشوارع التي تحمل اسمه لأسماء أخرى، فتحول شارع الملك غازي إلى شارع الكفاح، وشارع الأمير غازي لشارع النضال.

غيّرت لغة المحو - لغة السلطة - كل شي. فلم يعد للعراقي بصورة عامة رمزًا وطنيًا ثابتًا، ولا مشاعر مستقرّة، بل ولا حتى مدينة ترتبط أسماء شوارعها بذاكرته

لقد غيّرت لغة المحو - لغة السلطة - كل شي. فلم يعد للعراقي بصورة عامة رمزًا وطنيًا ثابتًا، ولا مشاعر مستقرّة، بل ولا حتى مدينة ترتبط أسماء شوارعها بذاكرته.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

8 شباط 1963.. بيان عبد الكريم قاسم الذي لم يسمعه العراقيون

آخر نظرة طفولية لبغداد بعد "القتل والسحل".. صور نادرة من أحداث 14 تمّوز!