16-سبتمبر-2019

ظلت حكومات الاستبداد تقتل أي صوت رافض لها ولا تقبل بأي تعددية.. صوتها هو الأعلى (AFP/Getty)

باستثناء رواية غائب طعمة فرمان "خمسة أصوات" أستطيع أن أؤكد غياب دور الصحفي أو تغييبه "داخل النص" في الرواية العراقية. حيث نجد أنه قد تخلّى عن دوره – نصّيًا - في التوعية أو التثقيف والدفاع عن حقوق الناس والمطالبة بحرية التعبير، إلى الاختفاء أو التراجع أمام المجتمع والسلطة، بل أستطيع أن أقول إنه لم يعد يقوم بأقل واجب له، وهو نقل الأخبار وتحليلها وإجراء التحقيقات.

يبدو أن الصحافة الحقيقية لم تغرِ الروائيين بتوفيرها "مادّة خام" تثير الخيال الروائي، سواء باحتكاكها بالمجتمع أو بالسلطة

لقد تحوّل الصحفي في الرواية العراقية، إلى شارلوك هولمز تمامًا، يبحث عن جريمة أو عن شخص ما، بمفرده - أحيانًا - حتى من دون تكليف من الصحيفة أو المؤسسة التي يعمل فيها، كما في رواية علي بدر "بابا سارتر" ورواية أحمد سعداوي "فرانكشتاين في بغداد" ورواية سعد محمد رحيم "مقتل بائع الكتب" وغيرها، وهذا قد يبدو مؤشرًا مهمًا على انعزال الصحافة الحقيقية - في نظر الروائيين - عن الواقع الاجتماعي العراقي وغيابها، وهو مؤشر خطير أيضًا على انعدام حريّة التعبير.

اقرأ/ي أيضًا: "بابا سارتر".. تمثلّات ساخرة لصورة فيلسوف عربي

ويبدو أن الصحافة الحقيقية لم تغرِ الروائيين بتوفيرها "مادّة خام" تثير الخيال الروائي، سواء باحتكاكها – أي الصحافة - بالمجتمع أو بالسلطة، كما استفاد نجيب محفوظ من قضية سفاح مصري وحولها لرواية اللص والكلاب.

قبل الدخول في تفاصيل الروايات العراقية التي يؤدي الصحفي فيها دورًا مهمًا - أو هامشيًا - أحب أن أذكر شيئًا من تاريخ صحافتنا، لكن ليس من قبيل التوثيق التاريخي، بل من قبيل عرض الوقائع حتى يستطيع القارئ أن يُميّز مدى الحريّة الصحفية، وكيف بدأ العراق بخسارتها بسبب السلطة.

في عدد جريدة صدى بابل المرقم 248 الصادر يوم الأربعاء يوم 15 تموز عام 1914 وتحت عنوان "من هو معروف الرصافي" كتبت الصحيفة: "هو ذلك العربي الغيور هو ذلك العربي الشاعر المطبوع، هو ذلك العربي العالم اللغوي المدقق، بل هو ذلك العربي الحر الذي رنات يراعه أجاب دويها الأصقاع في جميع الأمصار في الذب عن حياض شرف العرب وما للغة العربية من المحاسن والمزايا الجليلة على سائر اللغات أجمع".

يستمر المقال بذكر فضائل الرصافي حتى يحدث التحول في الخطاب "هذا ما قاله كلُّ منّا بشأن معروف الرصافي قبل أن يُصبح نائبًا في مجلس المبعوثين، وقبل أن يزيل مقامه عن اليد التي أشار إليها في قصيدته الشهيرة:

ولولا يدٌ شدت لساني

لبحت بسر هو كالشجا في حلقي".

صاحب المقال يعترض على عدم موافقة الشاعر الرصافي على قانون يقضي بتدريس اللغة العربية في المدارس الابتدائية. لقد هاجمت الصحافة، الدولة العثمانية "ضمنيًا" والشاعر العراقي معروف الرصافي بصورة مباشرة. ووجهت العتب لجمهور ناخبيه أيضًا: "ومهما يكن فإننا لا نعتب على حضرة النائب في خطيّته الجديدة، إنما أتينا بما أوردناه ذكرى لقوم اختاروه عنهم مبعوثًا وكفى".

بعد سنوات، وفي مقال بعنوان "عملية حسابية" موَّقع باسم "إبليس" في مجلة الحاصد العراقية عام 1932 بمناسبة زيارة اُم كلثوم لبغداد. نجد أن الصحفي يهاجم موجهي الدعوة لها، بحجة اقتصادية تشير بوضوح وبطريقة ساخرة لفقر العراقيين وجوعهم وإهمال الدولة لهم وانشغالها عنهم، يقول الصحفي "قدمت الآنسة أم كلثوم كروانة الشرق إلى بغداد بالطيارة، وتعهدت بإقامة 10 حفلات تتقاضى فيها عن كل واحدة 200 جنيه".

استمر  النسق الصحفي العراقي في الدفاع عن حقوق الناس ومهاجمة المسؤولين أو الدولة، حتى ثورة تموز 1958

يضيف "إبليس" متحدثًا بلغة الأرقام "ولو حسبنا ما يعادل هذه الألفي جنيه من الصمون لكان من السهل جدًا أن نعرف إنها ثمن لمليوني صمونة من الصمونات ذات الفلس الواحد، والتي تكفي لإشباع فقير وإسكات عصافير بطنه المزقزقة جوعًا.. ولو استثنينا من سكان العراق الذين يبلغون الثلاثة ملايين نسمة ثلثهم، باعتبار أنهم لا يعرفون أكل الصمون، فتكون هذه المليونا صمونة كافية لسد رمق ثلثي سكان العراق في وجبة أكل من الوجبات الثلاث".

استمر هذا النسق الصحفي العراقي في الدفاع عن حقوق الناس ومهاجمة المسؤولين أو الدولة، حتى ثورة تموز 1958.

اقرأ/ي أيضًا: 4 روايات عراقية جديدة

لكن بطبيعة الحال لم تكن الأمور قبل ثورة تموز، جيّدة وجميلة لأنها كانت محميَّة - نوعًا ما - بوجود المعارضة السياسية الحزبية، حيث يذكر خالد حبيب الراوي في كتابه "من تاريخ الصحافة العراقية" أن وزارة نوري السعيد الرابعة "أصدرت عددًا من المراسيم والأنظمة بعد إعلان الحرب العالمية الثانية، تجعل بعض أحكامها الصحف والمجلات وحتى النشرات الدورية خاضعة للرقابة الحكومية".

كان نوري السعيد بوزاراته المتعاقبة ومؤيديه حزبيًا، يُغلقون الصحف ويعتقلون الصحفيين المعارضين لسياستهم بشكل كبير.

وعلى أساس هذا الاضطرب بين الصحافة والسلطة، نجد أن رواية "خمسة أصوات" للروائي الكبير غائب طعمة فرمان الصادرة عام 1967 قد تحدَّثت عن تجربة صحفية حقيقية، عن طريق البطل سعيد، وهو فرمان نفسه، وإبراهيم ، وهو الصحفي عبد الله الونداوي.

تقع أحداث الرواية في العام 1954 حيث نجد في الصفحة 12 "كانت دجلة تفوح برائحة طين نقي وهي منتفخة البطن" بعدها بصفحات يفيض دجلة، والمعلوم أن الفيضان حدث عام 1954.

كان الحس الصحفي في ذاك العام مشابهًا للأعوام السابقة، أعني من ناحية مُهاجمة وانتقاد استبداد السلطة بشكل مباشر، نقرأ في الرواية "جريدة الناس ونوري السعيد شيئان لا يجتمعان". وطبعا جريدة الناس تقابل في الحقيقة "جريدة الأهالي" التي كان يعمل فيها فرمان بصفة محرر، والونداوي مديرًا للتحرير.

في موضع آخر من الرواية يقول إبراهيم "عندنا اليوم مقال شديد عن مراسيم نوري السعيد". وتبلغ ذورة القمع عند السلطة في الرواية، عندما يُصدر السعيد أوامره بغلق الصحيفة وطرد موظفيها "أخرجوا، عندنا أمر بإغلاق الجريدة، وختمها بالشمع الأحمر".

لم يحل خريف 1954 إلاّ وجميع الصحف الوطنية العلنية قد اختفت، ولعل من أبرز هذه الصحف جريدة لواء الاستقلال، وجريدة صوت الأهالي لسان حال الحزب الوطني الديمقراطي

يشير الدكتور إبراهيم خليل العلاف في مقاله "الصحافة العراقية والتطور السياسي" إلى قمع السلطة للصحافة "حيث لم يحل خريف 1954 إلاّ وجميع الصحف الوطنية العلنية قد اختفت، ولعل من أبرز هذه الصحف جريدة لواء الاستقلال لسان حال حزب الاستقلال، وجريدة صوت الأهالي لسان حال الحزب الوطني الديمقراطي".

اقرأ/ي أيضًا: علاء مشذوب.. الكاتب الذي وقّع روايته بعد اغتياله

ولم يكن الصحفي في رواية خمسة أصوات، خائفًا على نفسه فقط من السلطة. ففي المشاهد الاخيرة نقرأ حوارًا بين إبراهيم وسعيد يتحدّث عن خوفهم على الناس، كُتّاب الشكاوى ومقدمي العرائض، يقول إبراهيم "الجريدة مهددة بالإغلاق، علينا أن ننظف - الجرارات - حتى لا يقع في أيدي الشرطة شيء يُحاسب عليه الناس من حيث لا يدرون، يجب أن نتلف الأوراق على الأخص الموجودة في مكتبك، فيها آلاف التواقيع".

ويبدو أن المشهد السابق كان حقيقيًا؛ لأننا نجد في مقال للأستاذ جلال الماشطة بعنوان "النخلة المرتجاة والمخاض المؤجل" نصًا يؤكد مشهد رواية خمسة أصوات، حيث يروى الماشطة فيه ما أخبره به فرمان عن حادثة إغلاق جريدة الأهالي "كان ذلك في الضحى، وكنا جالسين في غرفة التحرير، وهي سرداب قديم، وإذا بالشرطة تهجم علينا شاهرة مسدساتها وتقول: عندنا أمر بإغلاق الجريدة، اتصلنا بكامل الجادرجي تلفونيًا فجاء على الفور، ثم صدر الأمر إلينا بمغادرة السرداب، ورأينا أفراد الشرطة وهم يقلبون محتويات أدراج مناضدنا ويضعونها على شكل كومة في وسط السرداب".

وعلى أرض الواقع، فقد سُحبت الجنسية من غائب طعمة فرمان عام 1954، العام الذي تتحدث عنه الرواية، ففي حوار له مع مجلة العربي سنة 1985 يقول "عدت - الى بغداد - عدة مرات، بعد خروجي منها عام 1954 منزوع الجنسية من قبل نوري السعيد فمكثت في القاهرة".

لم تكن شخصية الصحفي في رواية خمسة أصوات شخصية تميل للجانب السياسي فقط، فهي تؤشر تقصير الدولة في الجانب الخدمي للمواطنين، حيث نلاحظ أن سعيد يقوم بتحقيق صحفي عن سوء الأوضاع الصحية في مستشفى العزل.

ويبيّن فرمان في روايته، تجاوب الناس مع الصحافة في أكثر من مكان، فالصحفي كان يُعدّ - بحسب الرواية - مُنقذًا أو بوابة للشكوى "أنت تفهم، تكتب في الصحف عن ظلم الناس والحكّام" ، وفي صفحة اخرى نقرأ "وأعدّ سعيد مقال الرأي العام من أكوام العرائض التي تملأ جرارات مكتبه". بل إننا من الممكن أن نلاحظ تجاوب وإعجاب المواطن العادي، بالصحف والصحفيين بشكل واضح "احنى الجابي رأسه وقال: أستاذ سعيد، أنا معجب، خصوصًا بالمقالة عن مستشفى الحُمّيات".

 كانت شخصية الصحفي في رواية خمسة أصوات، وروايات ما قبل مرحلة 1958، شخصية أخلاقية، مثالية، متعاونة مع الناس، وضد قمع السلطة ودكتاتوريتها

في المجمل كانت شخصية الصحفي في رواية خمسة أصوات، وروايات ما قبل مرحلة 1958، شخصية أخلاقية، مثالية، عصاميّة، مبدئية صادقة، غير مرتشية ولا منافقة، متعاونة مع الناس، وضد قمع السلطة ودكتاتوريتها. على العكس من الأدب المصري، حيث نجد شخصية الصحفي قبل الثورة، شخصية انتهازية منافقة متملقة وصولية، كما في رواية دموع صاحبة الجلالة للروائي موسى صبري من خلال بطل روايته الصحفي الوصولي "محفوظ عجب" والتي تتحدث عن مرحلة الأربعينيات في مصر وحتى الثورة. أيضًا من خلال شخصية رؤوف علوان الصحفي الذي يتنكّر لمبادئ الثورة ويتغيّر بعد سنوات ويبحث عن الإثراء غير المشروع في رواية اللص والكلاب لنجيب محفوظ.

اقرأ/ي أيضًا: مرتضى كزار.. الرواية ضرب من التأريخ

وعلى العكس تمامًا من الأدب العراقي، لصق الأدب المصري في كثير من رواياته أسوأ الصفات في شخصية الصحفي، فهو سكّير منافق مرتشي، بل وحتى شاذ جنسيًا كما في رواية عمارة يعقوبيان للروائي علاء الأسواني.

عام 1972 كتب عبد الرحمن مجيد الربيعي رواية الوشم، تتحدث الرواية عن معتقل سياسي - لم يحدد الروائي زمن الرواية لكن المشهور بين النقاد أنها في الستينيات - يخرج البطل بعد شهور من معتقله، ويعمل في الصحافة، لكننا لا نجد أي "فعل" صحفي في الرواية، فهو صحفي لا صحفي.

كلُّ ما نجده في الرواية هو انكسار لكريم الناصري - البطل - وانعزاله بعالمه الخاص الخائب. إننا لا نجد في الرواية أيضًا، جملًا تخصُّ الصحافة سوى جملتين، الأولى حينما يستنكر جابر الموصلي أفعال الصحفيين ويصفهم بالوصوليين "امرأة واحدة تساوي كل هذه الجريدة ومحرريها الوصوليين"، والجملة الثانية عندما يقول جابر الموصلي أيضًا، للراقصة شهرزاد، أن كريم الناصري سيكتب عن رقصها مقالًَا في الصحيفة "إنه المحرر الفني الذي سيكتب مقالة عن رقصك العظيم".

ويمكننا أن نرى هنا، الانحدار الذي وصل له كريم الناصري من معتقل سياسي، لشخص يكتب مقالًا عن راقصة رخيصة. إنه يرضى بأي إهانة لأنه باع كل شيء، فصار يحمل الوشم - الخيانة، كفتاة الليل الموشومة بفخذيها والتي تقزز منها سابقًا، لكن وشمه معنوي، لأنه شعر بخيانته لرفاقه بعد أن وشى بهم للسلطات، وكتب براءة منهم، مقابل إطلاق سراحه من المعتقل.

كان الصحفي هنا، في هذه الرواية، مكسورًا غير نافع لنفسه ولا للمجتمع. كان عليه حتى يستمر في العيش، أن يجد مكانًا آخر وحياة أخرى. لذلك يُنهي الروائي عبد الرحمن مجيد الربيعي، حياة بطله في العراق وينقله للكويت.

كعادة الروايات التي كُتبت في مرحلة ما بعد 1968 في "عزل" الصحفي، نجد أن فرمان في روايته المركب قد عزل "الصحفي رائد" عن المجتمع والسياسة، بشكل مغاير تمامًا للصحفي في رواية "خمسة أصوات"

تتكرر حالة "الصحفي اللاصحفي" في رواية المركب لغائب طعمة فرمان الصادرة عام 1989 فأحداث الرواية تقع خلال السبعينيات في مؤسسة إعلامية لكن الأبطال ليسوا صحفيين، باستثناء "رائد".

وتشير الرواية لحالة الفساد الإعلامي الذي تعاني منه مؤسسة تابعة الدولة، من خلال إطلاق "شائعة" عن اغتصاب فتاة موظفة في المؤسسة، أثناء رحلة لجزيرة أم الخنازير. تتحدث الرواية عن تطور عمراني، مقابل خراب في النفوس.

اقرأ/ي أيضًا: زيد عمران: الرواية العراقية هي الرائدة عربيًا

وكعادة الروايات التي كُتبت في مرحلة ما بعد 1968 في "عزل" الصحفي، نجد أن فرمان قد عزل "رائد" عن المجتمع والسياسة، بشكل مغاير تمامًا للصحفي في رواية "خمسة أصوات" بل إنه أحيانًا جعله يبدو "خائفًا" من السلطة. يقول رائد أثناء جلسة سُكر "ثم إن حكام العراق في السابق، بالطبع، لا يهتمون إلا ببغداد، ويتركون المدن الأخرى تذوي بعزلتها".

وربما لو لم يكتب فرمان جملة "حكام العراق في السابق" لما مرر الرقيب روايته، لأن قانون المطبوعات العراقي الصادر في العام 1968 في الفقرة 16 منه يقول بـ"عدم جواز نشر ما يعتبر مسًّا برئيس الجمهورية أو أعضاء مجلس قيادة الثورة أو رئيس الوزراء أو من يقوم مقامهم".

وكحال "سعيد وإبراهيم" أبطال رواية خمسة أصوات، كان رائد يعاني صعوبة المعيشة بل أسوأ، فهو يعيش في غرفة يقول عنها "هذه حجرتي الحقيرة" كانت الغرفة مليئة بالسواد "سطح المنضدة من الزجاح الأسود". ونقرأ أيضًا "في الحجرة أريكة سوداء القماشة... بعض المقاعد سوداء الجلد... قضبان حديد نحيلة مصبوغة بالأسود... كل شيء سواد في سواد".

كانت حياة الصحفي رائد في بغداد عبارة عن سواد في سواد، كان رائد ميّتًا من الداخل مثل كريم الناصري بطل رواية الوشم، ميِّتًا حتى في كتابة مقالاته "لماذا يستعمل رائد كلمة ثيب بدلًا من عذراء؟ إنه مجنون يحبّ الكلمات الميتة، يزوّق بها مقالاته".

ويمكن ملاحظة التشابه الكبير بين شخصيتي كريم الناصري بطل رواية الوشم ورائد بطل رواية المركب، فالاثنان صحفيان، ليسا من بغداد - الأول من الشمال والثاني من الجنوب - يعانيان من خيبة لا تزول بسبب ماضي سياسي يلاحقهما. سلبيان تجاه نفسيهما والمجتمع، وحيدان وخائبان تمامًا. كريم يتحول من معارض سياسي لصحفي يكتب مقالات عن راقصة، ورائد من منتمي لحزب سياسي معارض، لصحفي يروّج في كتاباته للمنتجات الوطنية "ما أزال أنا أرفد المؤسسة بالأفكار الجذابة لترويح المنتجات الوطنية".

لكن الاختلاف بينهما يكون في النهايات، فبينما يخرج كريم لحياة جديدة خارج العراق، يبقى رائد يكافح ليبقى في مؤسسته، ولا يشعر بالاطمئنان إلا بعد أن يخبره "المدير العام" أنّه لن يُفصل أو يُنقل من الوظيفة.

بالنتيجة، فإننا نجد أن أغلب الروايات كُتبت في الستينيات والسبعينيات، والتي تدور أحداثها خلال هذه الأعوام، يكون فيها "الصحفي" شخصية تُعاني الوحدة والخيبة والفقر. لكن الأسوأ، أنهم صحفيون بلا صحافة حقيقية، بعيدون عن السياسة، بعيدون عن المجتمع.

عام 1886 اخترع الطبيب كونان دويل شخصية بوليسية أدبية باسم "شارلوك هولمز" كان هولمز بمساعدة صديقه الدكتور واتسون، محققًا لا يعمل مع الشرطة. كان هدفه الأساس كشف الجريمة فقط.

كشف الجريمة وتحديد المجرمين بالأدلَّة عن طريق القصص، هو ما كانت تنتظره الجماهير من كونان دويل، ولا أحد يبحث عن المعنى أو عن تحقيق العدالة.

أغلب روايات الستينيات والسبعينيات يكون فيها "الصحفي" شخصية تُعاني الوحدة والفقر. لكن الأسوأ أنهم صحفيون بلا صحافة، بعيدون عن السياسة والمجتمع

كتب علي بدر روايته "بابا سارتر" عام 2001 في جو مشابه لقصص شارلوك هولمز، لكن من دون وجود جريمة قتل أو سرقة، كانت الرواية تناقش التزييف الثقافي الحاصل في مجتمع الستينيات العراقي. وتتحدث الرواية عن صحفي - كاتب، يُكّلف من محتالَين غامضين، هما "حنا يوسف ونونو بهار" بتتبع وكتابة سيرة فيلسوف فاشل نصّاب لا قيمة له.

اقرأ/ي أيضًا: علي بدر.. الرواية سباق مع الخراب

يُزوّد الكاتب - الصحفي، بكل المعلومات التي تخص فيلسوف الصدرية، من قِبل حنّا يوسف "أنت ستكتب سيرة هذا الرجل، ونحن نقوم بتغطية نفقات جمع المعلومات، والوثائق ومن ثم سندفع لك".

لم يذكر علي بدر زمن الرواية في روايته "بابا سارتر"، إلا إنه أشار إليه خلال النص. من خلال الجمل التالية التي تتحدث عن محل شاؤول "وهو محل صغير تغير ألف مرة منذ أن هجره شاؤول في السبعينيات"، وهذا يعني أن السبعينيات عدّت. أيضًا هناك إشارات اُخرى تتمثل بهروب جواد من الشرطي لأنه "فرار من الجيش" ووجود بوّاب مصري الجنسية، كل هذه دلائل تحدد زمن الرواية الفعلي وهو الثمانينيات.

وبعودة بسيطة للتاريخ يمكننا مشاهدة ماحدث للصحافة في أيام الثمانينيات، ففي عام 1979 تسلّم صدام حسين السلطة في العراق، بعدها بعام. بدأت حرب الثمان سنوات مع إيران، فكرَّست السلطة في العراق العمل الصحفي والأدبي لخدمتها. وصدرت سلسلة قصص ومسابقات عن قادسية صدام.

في العام 1982 قال وزير الثقافة لطيف نصيف جاسم إن "معركة العز والكرامة التي يخوضها شعبنا وجيشنا ضد العدو الإيراني، أفرزت خلال العامين الماضيين إبداعات فنّية وثقافية ستتحدث عنها الأجيال القادمة بفخر وتاريخ مجيد".

بعد صعود صدام حسين إلى السلطة.. توقفت الصحافة عن سرد قصص الناس وآلامهم، بسبب الاستبداد الذي منع التداول الحر للأخبار. فحدث موت للسرد الحُر المُتعدّد

كانت إحدى اللجان المُشكلة لفحص القصص الخاصة بمسابقات قادسية صدام في العام 1982، مكوّنة من خيرة أساتذة الأدب والنقد "جبرا إبراهيم جبرا، د. محسن الموسوي، فؤاد التكرلي، موسى كريدي".

بعدها بعام أي في 1983 بدأت الدولة بطباعة "قصص تحت لهيب النار" كان كل شيء ثقافي وأدبي خاضعًا لفكر السلطة والثورة. في مقال بعنوان "المسرح العراقي زمن الثورة" والذي نشر في مجلة الاقلام العدد 7-8 لعام 1982 تظهر ملامح الدكتاتورية والإقصاء بشكل جلي، يقول الكاتب: "بعد قيام ثورة 17 تموز وجد المسرح نفسه، أمام مهمات اجتماعية من نوع مغاير لما كان عليه قبل الثورة، فبعد أن كان يتخذ صراحة أو ضمنًا، موقف الإدانة والرفض للأنظمة الدكتاتورية، بات عليه أن ينتقل لموقف التضامن. بعد أن كان أداة تحريض ضد الاستغلال الطبقي والقهر السياسي، بات عليه أن يتحول أداة للتعبير عن القيم الاشتراكية والقومية التي جاءت بها الثورة".

اقرأ/ي أيضًا: بندكت أندرسن و"جماعاته المتخيلة"

إن مضمون الخطاب السابق يقول: لنلغي كل تعدد، كل اعتراض، كل رفض. ونتكلم بلسان الثورة فقط. لقد ماتت الصحافة الحرّة في الثمانينيات أيضًا، باعتبارها "شكلًا روائيًا" كما يصفها بندكت أندرسن في كتابه "الجماعات المتخيّلة"، وما جرى على الأدب والفن بصورة عامة، جرى على الصحافة، ولم يبق للصحفي سوى الوظيفة.

لقد توقفت الصحافة عن سرد قصص الناس، آلامهم، أفراحهم وأحزانهم، بسبب دكتاتورية السلطة التي منعت التداول الحر للأخبار. فحدث موت للسرد الحُر المُتعدد، مقابل حياة لصوت واحد بخطاب دكتاتوري لا يقبل النقاش مثل خطاب صدام حسين في 17 تموز 1992: إن "كل الدعوات ذات البعد والأهداف التي تتحد باتجاهها العام أو تتوازن مع البعد والأهداف لفكرتنا – المنهج - ما كان ليترافق فيها شعار الجهاد من أجل المبادئ المرفوعة على أعلى سارية مختارة، مع الترف، بل ولا يمكن ان يتحقق الازدهار الاقتصادي إلا بعد أن يستقر للدعوة قرارها في عمق مداها، وحتى تغدو حقيقة مسلمًا بها في محيطها". إننا هنا، أمام نص دكتاتور غير مفهوم المعنى، يستطيع بقوّته العسكرية قتل أي فرصة للفهم أو للحوار.

لذا نجد أن الروائيين المتحدثين في سردهم عن مرحلة الثمانينيات، بدوا عاجزين عن خلق "صحفي فاعل" في أدبهم، وهذا ما جعل علي بدر في رواية بابا سارتر يحوّل "الكاتب - الصحفي" لمحقق لا أكثر. وأعتقد أنه كان موفقًا في هذا الجانب، لأنه لا يمكن خلق صحفي معارض أو منعزل في تلك الفترة، فما كان موجود هو الصحفي الموظّف فقط.

كانت نهاية رواية بابا سارتر تقول إن ما جرى في الستينيات من تزييف ثقافي، سيتكرر في الثمانينيات من خلال عودة شخصية المحتال يوسف حنّا، بتقمصه لشخصية ميشيل فوكو، وطلبه الكتابة عن "بنيوي الوزيرية". إنها نهاية تليق فعلًا بالتزييف الثقافي الشامل الذي حصل في أعوام الثمانينيات.

وعلى خطى رواية بابا سارتر، سارت رواية "مقتل بائع الكتب" للروائي سعد محمد رحيم والتي صدرت في العام 2016 وتدور أحداثها في العام 2009 وتتحدث عن شخص مجهول يتصل بالصحفي ماجد ويطلب منه الكتابة عن سيرة "محمود المرزوق" ويتعهد بالتكفل بجميع التكالف "أريدك أن تكتب كتابًا عنه وسأتكفل بنفقات نشره بطباعة راقية في بيروت".

 الروائيون الذين تحدثوا في سردهم عن مرحلة الثمانينيات، كانوا عاجزين عن خلق "صحفي فاعل"، وهذا ما جعل علي بدر في رواية بابا سارتر يحوّل "الكاتب - الصحفي" لمحقق لا أكثر

وفي الروايتين؛ بابا سارتر ومقتل بائع الكتب، نجد أن الروائيين جعلا الصحفي، يستلم معلوماته من مصادر غير واضحة، فلا أحد يعرف على وجه الدقّة من هما يوسف حنّا ونونو بهار، ومن هو الرجل الذي يطلب من الصحفي ماجد كتابة سيرة محمود المرزوق. وتشير حركة اعتماد الروائيين على جعل الصحفي يتسلم معلوماته من مصادر مجهولة، أو غير واضحة، إلى غياب التفاعل بين الجمهور والصحافة. فليس هناك أُناس يرسلون عرائضهم وشكاواهم التي من الممكن أن تُقلق الدولة فتصنع حدثًا أو سردًا روائيًا مهمًا، كما حدث في رواية خمسة أصوات لفرمان.

اقرأ/ي أيضًا: سعد محمد رحيم.. جنة ماركس قبل أدلجتها

إن هذه الفكرة - اعتماد الروائيين على جعل الصحفي يستلم معلوماته من مصادر مجهولة، أو غير واضحة - تعني أيضًا عدم إيمان الروائي بوجود مؤسسة صحفية مهنيّة، ولنلاحظ أنه حتى "رائد" في رواية المركب يصدّق بالاشاعة مجهولة المصدر.

يؤكد سعداوي في روايته فرانكشتاين في بغداد فكرة – عدم إيمان الروائيين بوجود مؤسسة صحفية مهنية - فمحمود السوادي يتسلم معلوماته من رئيس التحرير علي باهر السعيدي، الإسلامي "التارك"، صديق العميد سرور البعثي التارك "كانا يتحدثان عن الحرب الأهلية وكأنها فلم ينتظران مشاهدته في السينما.. كانا يضحكان". إننا أمام رئيس تحرير انتهازي مادّي وصولي، على علاقات واسعة بحكومة ما بعد 2003 .

لم يعرف الصحفي العراقي - في السرد - الاستقرار في الحياة، فباستثناء إبراهيم في رواية خمسة أصوات لأنه الوحيد المتزوج، كان الصحفيون الآخرون، رائد في رواية المركب، وكريم الناصري في رواية الوشم، والكاتب في رواية بابا سارتر، والصحفي ماجد في رواية مقتل بائع الكتب ومحمود السوادي في رواية فرانكشتاين في بغداد من دون عائلة حقيقية. ومن دون سكن جيّد.

لقد ظلّت روح الصحفي في الرواية العراقية، روحًا غريبة، تائهة بين السياسة والدكتاتورية والحصار والحروب الأهلية. وتدريجيًا تحولوا لمحققين هولمزيين منقطعين عن العالم الحقيقي يأخذون معلوماتهم من مصادر مجهولة أو فاسدة. كل مهمّتهم كشف جريمة. كأن ما يُهم فقط هو كشف الجريمة.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

سعد محمد رحيم.. أهوال الحياة العراقية

سنان أنطون: تركت العراق لكنه لم يتركني