كان صوت الرصاص يُشوّش على التفكير العقلاني جاعلًا منه "ترفًا" إذا ما أراد المرء تناول التظاهرات التي انطلقت في الأول من تشرين/أكتوبر، ثم صمّ الدم وحجم القمع الوحشي عقولنا لبرهة، حزنًا على من ارتقوا شهداء. لكن لا بد من العودة إلى تدوين ما يُمكن تدوينه لمن لم يعش هذه الحقبة.
بالرغم من استخدام الرصاص الحي وانتشار القنّاصين أصر الشباب العراقي بشجاعة وسلمية على الاستمرار في الاحتجاج لعدة أيام
لا يُخفي أحد مفاجئته من حجم التظاهرات، وشجاعة المتظاهرين وسلميتهم وتنظيمهم "غير المُنظّم"! .. والأهم، من إصرارهم على المواصلة في الاحتجاج لعدة أيام رغم استخدام الرصاص الحي، وانتشار القناصين المختبئين في أسطح البنايات، يصطادون الشباب الذي لا يحمل إلا علمًا عراقيًا، وكمامةً تقيه من الغاز المسيل للدموع. ورغم أن المُباغتة طبيعية في فقه الثورات، إلا أن السلطة وأحزابها والمنتفعين منهما راحوا يبحثون عن خيط لمؤامرة أكاد أن أجزم أنهم غير مقتنعين بها، فقط لكونها الطريقة الوحيدة لمهاجمة متظاهرين سلميين ومطالب مشروعة بشهادة الفاسدين أنفسهم.
اقرأ/ي أيضًا: سحل العملية السياسية ونهاية العقد "السفاهتي"
تنوعت تظاهرات العراق منذ سنوات خلت، وتميّزت التظاهرات الأخيرة عنها. لقد عَرِف عراق ما بعد الاحتلال عدة أشكال من الاحتجاجات، ربما بدأها الصدريون حين احتجوا على الاحتلال الأمريكي في أعقاب أزمة صحيفة الحوزة التابعة للصدر والتي أغلقت بقرار من بول بريمر.
خرجت احتجاجات مطلبية عامي 2008 و2010، أما الأكثر شهرة حتى ذلك الحين كانت تظاهرات شباط/فبراير 2011 المتأثرة بالثورات العربية، التي حملت مطالب بإصلاح النظام ومحاربة الفساد، وكانت بعض الشعارات في ساحة التحرير تستهدف شخوصًا بعينهم، مثل رئيس الوزراء آنذاك نوري المالكي وأمين ومحافظ بغداد، وكذلك في بقية المحافظات، قبل أن يُنهيها المالكي بالقنابل الصوتية والرصاص الحي والاعتقالات. عادت الاحتجاجات مطلبية في 2013، فيما أخذت مسارًا آخر في المحافظات الغربية حيث انتهت بكوارث.
ثم كانت أقوى على صعيد الوسط والجنوب في تظاهرات 31 تموز 2015 وما تلاها، حيث خرجت قوى مختلفة إلى الشارع، لكن من كان في الواجهة هم المدنيون والشيوعيون والشخصيات الإعلامية العلمانية، حملوا جميعًا مطالب خدمية، ودخلت حركة عصائب أهل الحق على الخط وبعدها الصدريون لتدارك الموقف، وتحولت التظاهرات إلى قاعدة صدرية، وقيادة صدرية مدنية، الأمر الذي زعزع ثقة الناس فيها لعدة اعتبارات. وبقيت السيادة على ساحة التحرير "صدرية" حتى انتخابات 2018 وفوز تحالف سائرون بالمركز الأول كممثل عن ساحات الاحتجاج. لقد كان الناس منقسمين بين مؤيد للاحتجاجات ومشكك ومعارض. ورغم المطالب الوطنية ورفع الأعلام العراقية إلا أن تظاهرات الصدريين وشركائهم المدنيين بقيت فئوية لها هوية واضحة بالنسبة للعامة، وأوصلت التظاهرات الصدرية واقتحام المنطقة الخضراء العراقيين الناقمين إلى شُبه يقين بأن التظاهرات لا تُجدي نفعًا، وبالتالي فقد ذهب البعض إلى الجزم بأن "موضة" التظاهرات قد انتهت، حتى خرج البصريون صيف 2018 في تظاهرات خدمية أسوة بتظاهرات السنوات السابقة، لكنها بحدةٍ أكبر، غذّتها البطالة وتلوث مياه الشرب وتردي الخدمات والكهرباء في صيف لاهب، وساندتها بعض المحافظات منها بغداد، إلا أن المركزية بقيت في البصرة، وانتهت بإحراق العديد من مقرات الأحزاب والفصائل المسلحة، وقتل واعتقال العديد من الناشطين، وتدخل المرجعية الدينية في النجف لحل أزمة الخدمات في المحافظة.
كانت التظاهرات الأخيرة وطريقة قمعها والإصرار على ذات الاستراتيجية في التعامل مع المتظاهرين هي القشة التي قصمت ظهر حيدر العبادي وطموحه في ولاية ثانية، واتجه تحالفا سائرون والفتح ومن خلفهم المرجعية إلى اختيار عادل عبد المهدي لرئاسة الحكومة كخيار بين خيارين، وشكّل حكومة منقوصة بأربعة عشر وزيرًا، لم تُستكمل حتى تظاهرات تشرين الأول من العام الحالي 2019!
مَرّ عامٌ على التشكيلة الجديدة، حمل كمًا من الأحداث لم تشهدها السنوات السابقة. بدأ بفضائح تزوير الانتخابات وتجميد عمل مفوضية الانتخابات "المستقلة" وإحلال القضاة المنتدبين إلى مفوضية الانتخابات لإعادة العد والفرز اليدوي للصناديق الانتخابية التي احترق بعضها في بغداد، حتى أقر القضاة المنتبدون بنتائج الانتخابات وبتغييرات طفيفة لم تُغير شكل المعادلة التي أفرزتها الصناديق سابقًا. وما إن تشكل البرلمان الجديد حتى افتتح مشواره باتهامات جاهرة من شخصيات سياسية حول شراء منصب رئيس مجلس النواب. لقد تشكل مجلس النواب بمشاركة شعبية ضعيفة في الانتخابات، وبفضائح شراء المناصب. بذلك ولد ميتًا، أكبر ممثلٍ للشعب في السلطة.
كان فشل تحالف سائرون بتقديم الإصلاحات التي حمل شعاراتها ناخبوه في ساحة التحرير بمثابة ضربة الانفصال التام بين الشارع الغاضب والعملية السياسية
بدا أن الكتل السياسية متفقة على دعم الحكومة الجديدة من أجل إعادة تطبيع العلاقة مع الأوساط الشعبية الناقمة على العملية السياسية وأحزابها، لكن دون التنازل عن حصصها وصراعها على المناصب من الوزارات حتى الدرجات الخاصة واللجان النيابية. وأدى ذلك الصراع إلى الإجهار علنًا عبر القنوات الفضائية والوكالات الإخبارية بعمليات بيع وشراء تلك المناصب، ومضت الكتل السياسية تتبادل التهم بذلك. فيما كان الشعب ينتظر الإصلاحات، لم يسمع سوى المساومات على الحصص.
اقرأ/ي أيضًا: عفوية احتجاجات 2019.. قواعد سياسية جديدة
لقد كان فشل تحالف سائرون بتقديم الإصلاحات التي حمل شعاراتها ناخبوه في ساحة التحرير بمثابة ضربة الانفصال التام بين الشارع الغاضب والعملية السياسية، من وجهة نظرنا.
حاول تيار الحكمة الذي خرج من مولد الحكومة بلا حمص أن يتبنى خيار المعارضة والتقرب من الشارع وتنظيم احتجاجات أسوة بما فعله التيار الصدري، وبات يخرق الخطوط الحمراء التي اتفقت عليها الكتل السياسية في دعم الحكومة، ويكشف نوابه وأعضائه عمّا يجري في أروقة الكتل السياسية للعلن؛ لكنه فشل فشلًا ذريعًا بعدم تأييد الناس له، ثم سقط بفخ التزام الجانب الحكومي في الحراك الشعبي الأخير مطلع تشرين الأول/اكتوبر. فتيار الحكمة يعلم أن لديه ما يخسره من احتجاجات "الفقراء" غير المُسيطر عليها.
مع التدهور الاقتصادي بفعل الحرب على تنظيم الدولة (داعش) وشروط صندوق النقد الدولي، لم تعد الدولة العراقية قادرة على استيعاب الطاقات الشبابية في وظائف حكومية جديدة، ما فجّر تظاهرات واعتصامات فئوية للخريجين وحملة الشهادات العليا وموظفي العقود والأجور اليومية والمنتسبين المفسوخة عقودهم فضلًا عن العاطلين، وكل هؤلاء بلا عمل، ولا أمل بإصلاح حكومي مرجو في ظل الفساد العلني للطبقة السياسية.
بعد احتجاجات موظفي "عقود الكهرباء"، كانت آخر التظاهرات الفئوية شهرةً هي التي نظّمها حملة الشهادات العليا قرب مقر رئيس الوزراء بمنطقة العلاوي في نهايات شهر أيلول/سبتمبر، وقُمعوا بواسطة قوات مكافحة الشغب، وأثارت مقاطع فيديو تُظهر سقوط نساء من حملة الشهادات بفعل مياه المدرعات ردود فعل غاضبة في الأوساط الشعبية على دناءة ذلك القمع الذي استهدف نساء في مجتمع مُحافظ مثل المجتمع العراقي.
كان حراك الأول من تشرين الأول "انتفاضة غضب" بكل ما تحمله الكلمة من معنى. لم يتوقعها مثقفون، لم يستوعبها السياسيون، لم تلحقها الدول، بل لم يعرف الإعلام كيف يتناولها
خلال السنة التي مضت، ازدادت حالات الانتحار في صفوف الشباب بشكلٍ لافت، ما يؤشر على حالة من فقدان الأمل لدى هذه الشريحة التي تمثل أكثرية الشعب. الأمل المفقود بفعل إصرار الطبقة السياسية على الفساد والصراع على المناصب وتقاسم الثروات دون التفات لمعاناة فئة لم تعد تحتمل ما تعيشه.
اقرأ/ي أيضًا: "لا علمانية ولا دينية".. عراقية هويتها الحقوق!
لقد كان حراك الأول من تشرين الأول "انتفاضة غضب" بكل ما تحمله الكلمة من معنى. لم يتوقعها مثقفون، لم يستوعبها السياسيون، لم تلحقها الدول، بل لم يعرف الإعلام كيف يتناولها، حتى تلك القنوات التي اشتهرت بدعمها للربيع العربي.
حَمَل المتظاهرون الغاضبون آمالهم بفرص العمل والخدمات والعيش الكريم لكنهم لم يرفعوها كشعارات لاحتجاجاتهم. خرجوا ينددون بالنظام السياسي والأحزاب دون تفاصيل أخرى. نريد وطنًا محترمًا يقولون.
حرّك الغضب الجماهير إلى الشارع ومدّهم بالإصرار على التظاهر رغم القمع وحظر التجوال والتغييب الإعلامي القسري. لقد بدأ المتظاهرون احتجاجاتهم بشعار "إسقاط النظام"، دون أن يتدرجوا بمطلب "الإصلاح" كعادة التظاهرات العربية، وهذا إن دل على شيء فيدل على حجم خيبة الأمل وعدم الثقة بالنظام السياسي.
إن ما جرى هو غضب، قابلته السلطات بالنار، وتلك وصفة لم تكن نهايتها وردية في يومٍ ما..
المتظاهرون خرجوا ينددون بالنظام السياسي والأحزاب دون تفاصيل أخرى. نريد وطنًا محترمًا يقولون
نسأل الله الأمن والسلامة للعراق، والرحمة لشهدائنا.
اقرأ/ي أيضًا: