18-مارس-2023
أعمال تنقيب في موقع مدينة لكش الأثرية

أعمال تنقيب في موقع مدينة لكش الأثرية (Getty)

تتأطر النظرة التقليدية لتخطيط المدن في العراق القديم بصورة نمطية تتخذ من الأسوار العالية والحصون المنيعة والأشكال الدائرية محددًا راسخًا في أذهان الكثير. ومما يعزز هذه الصورة سرديات التاريخ القديم التي تغنت بالملك كلكامش وهو يوحد شطري مدينة "أوروك" بأسوار عالية لتمجد منجزه هذا ملحمته الشهيرة.

حققت بعثات التنقيب الأجنبية والعراقية اكتشافات مذهلة عن مدينة لكش إحدى المدن الأولى في التاريخ العراق والعالم

وقد يعزز هذه الصورة أيضًا خرائط المدن العراقية خلال العصور الوسطى كبغداد المنصور، لكن البحث العلمي لا يأخذ بنظر الاعتبار الأجوبة المسبقة دون دليل. فمع التطور الكبير في تقنيات المسح والبحث الآثاري يظل الجواب مفتوحًا على كافة الاحتمالات.

3
مشهد يظهر جزءًا من مدينة لكش الأثرية
3
رقيم طيني يوضح إصلاحات الملك أوركجينا (3287 ق. م) محفوظ في متحف جامعة شيكاغو

وبالعودة إلى المدن الأولى، تعد مدينة لكش (في محافظة ذي قار)، من المدن الأولى في التاريخ العراق والعالم، حيث تؤكد الأبحاث الآثارية الحديثة أنّ تاريخ تشكلها يعود للفترة (4900 - 4600 ق.م)، لتكون لاحقًا النواة الأولى لدويلة لكش (city-state)، التي أضافت إلى التاريخ الإنساني الكثير من المساهمات الإنسانية الكبرى، فعلى أرضها ظهرت الإصلاحات الاجتماعية الأولى على يد ملكها أوروكاجينا (أحد ملوك سلالة لكش الأولى) في حوالي العام 2355 قبل الميلاد.

وتعد لكش المكان الأول لمفردة (أما ركي - الحرية) عبر التاريخ، وبصراعها الطويل مع دويلة أوما، تقع آثارها إلى الغرب من قضاء الرفاعي، تركت دويلة لكش الكثير من الرقم الطينية والمنحوتات الفنية التي تزخر بالفن والأدب والمعارف المتنوعة، وللتنقيب فيها تاريخ آخر، إذ بدأت عملياته منذ ما يزيد على قرن من الزمن تحديدًا من العام 1886 على يد الآثاري الألماني كولد، إلى وقتنا الحاضر، وتوالت عليها الكثير من بعثات التنقيب الأجنبية والعراقية، وتزايدت معها الاكتشافات المذهلة والدراسات العلمية التي تخص الموقع.

3
مخروط الملك أوركجينا يعود إلى العام (3278 ق .م) محفوظ في متحف اللوفر

لكن السؤال عن شكل لكش كمدينة وعاصمة لدويلة ظل يراود أذهان المختصين دون جدوى. في عام 2019 قدم فريق العلماء الأمريكيين والعراقيين على دراسة ميدانية لحدود وشكل مدينة لكش، وقد تم نشر الدراسة لاحقًا في مجلة "Journal of Anthropological Archaeology". تقول عالمة الآثار أميلي هامر من جامعة بنسلفانيا الأمريكية، إنّ صور الطائرات بدون طيار التي تم استخدامها، والمسترشدة ببيانات الاستشعار عن بعد، قد قدمت نظرة أكثر تفصيلاً على هياكل البناء المدفونة في لكش، وبتفاصيل أكثر دقة مما تقدمه صور الأقمار الصناعية".

كانت طائرات التصوير التي صورت الموقع قد حلقت في سماء لكش لمدة ستة أسابيع خلال عام 2019، وتمكنت من التقاط صور عالية الدقة عززتها التحليلات المختبرية للتربة.

3
تمثال كوديا ملك لكش يعود إلى العام  (2120 ق. م) محفوظ في متحف اللوفر

وعبر عمليات التحليل الأرضي للتربة، والصور الجوية على حد سواء تبينّ أنّ "لكش ومدن أخرى في جنوب العراق كانت قد بُنيت على تلال مرتفعة في الأهوار"، كما تؤكد ذلك عالمة الآثار جينيفر بورنيل من جامعة ساوث كارولينا الأمريكية.

تشير الاكتشافات الجديدة إلى أنّ التنقل في مدينة لكش كان مقتصرًا على القوارب عبر قنوات مائية ضيقة تمامًا كما في فينيسيا

لكن ذلك لا يرفع من الصورة النمطية عن شكل المدن الأولى، فلعل لكش كما نتصورها جميعًا بشكلها المسور. تقول عالمة الآثار إليزابيث ستون من جامعة ستوني بروك الأمريكية إنّ "لكش كمدينة كانت تتكون من حوالي 33 جزيرة منفصلة تمامًا، والعديد من هذه الجزر صغير جدًا".

3
مسلة النسور  (2600-2350 ق. م) التي تشرح مسيرة جيش لكش في انتصاره على مدينة أوما

وبالتأكيد ترتبط هذه الجزر بقنوات مائية ضيقة، ويبدو فيها التنقل مقتصرًا على القوارب، وربما احتوت على الكثير والكثير جدًا من الجسور الصغيرة تمامًا كما في فينيسيا.