تخبرنا الشواهد التاريخية أن الشعوب التي لا يجمعها المصير المشترك فأمرها إلى شقاق وإن طال الزمن. وبالخصوص إذا كانت النخبة الحاكمة تساهم في هذا الأمر، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. والخطورة التي تكمن في وضعنا العراقي الراهن أنه لا توجد وحدة مصير حقيقية. إن وحدة المصير الحقيقية التي تجمع هؤلاء هو تقسيم الثروة فيما بينهم. فلا زلنا، على سبيل المثال، نشك بمواقف الكرد حول وحدة العراق، وعن مدى جديتهم في الدفاع عن أراضيه فيما لو تعرّضت للاختراق. ولا أقصد الدفاع عن كردستان فحسب، بل جميع أراضيه التي تشكل مجتمعة وحدته السياسية، وأخشى أن نخبنا السياسية لا تتمتع بهذا الوعي القومي اللازم.
مفهوم الأغلبية السياسية المعمول به في الديمقراطيات العريقة لا يجد قبولًا من قبل الطائفيين إلا من حيث كونه ناطقًا رسميًا ومترجمًا حرفيًا عن الأغلبية الطائفية
ولا يختلف الحال مع النخب السياسية الشيعية، فالدفاع عن البلد مشروط بخطابات طائفية، ذلك أن الدفاع عن وحدة أراضيه يتخذ من المقولات الطائفية مقدمة تعريفية لمعنى الولاء الوطني، والدليل أن مفهوم الأغلبية السياسية المعمول به في الديمقراطيات العريقة لا يجد قبولًا من قبل الطائفيين إلا من حيث كونه ناطقًا رسميًا ومترجمًا حرفيًا عن الأغلبية الطائفية. وكل هذه المقدمات يمكنها أن تشكل مقدمات خطيرة، ولو على المستوى البعيد، بتفتيت وحدة البلد السياسية ويتحول إلى معسكر طائفي كبير لا يحق لك أن تبدي رأيًا مغايرًا لا يتماشى مع منطق الطائفيين فتجد نفسك منفيًا أو ميّتًا.
اقرأ/ي أيضًا: صواريخ إيران والسيادة العراقية: الضعيف لا مكان له
لقد تهاوت إمبراطورية الاتحاد السوفيتي دون أن تُطلق رصاصة واحدة، ولم تشعر الدول التي انسلخت من الاتحاد السوفيتي بأي حنين نحو الرجوع مرّة أخرى. كما لا ننسى أيضًا مأساة يوغسلافيا وكيف انتهت ممزقة الأوصال وانفردت كل دولة، التي كانت تشكل هذا الاتحاد، بحكم نفسها بعد حرب أهلية دامية. لقد كان يعوز هذه الكيانات الاتحادية وحدة المصير المشترك، إلّا أنها كانت ملتصقة فيما بينها بحكم الهيمنة العسكرية، وبالأخص في الاتحاد السوفيتي، وبحكم الحديد والنار. لكنه وعل المدى البعيد ينصهر هذا الحديد ويكون حممًا تقذف نفسها في كل مكان وتبتلع سيولها كل شيء أمامها وتحيله إلى رماد. قد نجادل في العامل الخارجي، وهذا صحيح تمامًا، لكن ما من قوة خارجية يمكنها أن تفتت بلدًا يتمتع بالعمق الكافي بوحدة المصير. وكما يذكر بعض المفكرين، أن المصلحة المشتركة تقتضي توازن بين العوائد والمسؤوليات، وأن السيطرة إذا كانت غاية بحد ذاتها ستفضي إلى طريق مسدود، وهذا الأخير مخيف جدًا في بلد واقف على كف عفريت مثل العراق.
وبدون أدنى شك أن طرائق الاستبداد والسيطرة ستولد نقيضها وهي المعارضة بمختلف إشكالها العنيفة منها والناعمة، وهذا ما جرى في تشرين، إذ رغم سلمية هذه الانتفاضة إلا أنها كانت علامة بارزة ومؤشر واضح على السخط الشعبي العام من هذه النخب التي تسهم وبشكل مباشر بتدمير البلد.
ثم أننا، وبحسب لغة زبغنيو برجنسكي، لا نحتاج إلى مزيد من التدليل على أن العجرفة طريقها مسدود تمامًا، ويصعب عليها الصمود في عالم ينفتح بشكل مطرد وتكاد تنعدم فيه القيود لدرجة واسعة للغاية. فسيغرق المتعجرفون هؤلاء الذين لا يتمتعون بحس للمسؤولية بشكل سريع، حتى عوائدهم المادية التي راكموها بعمليات الفساد الواسعة لا يتمتعون بها، فستصل دوائر البيانات الدقيقة إلى كل دولار قاموا بتجميعه.
فالسياسية العقلانية المتوازنة هي فرس الرهان لكل سياسي عراقي لتخفيف المخاطر الجسيمة التي تعصف بالبلد، فهو معرض للتقسيم وضياع الحس النبيل بالعيش المشترك وبروز أمراض اجتماعية وأمنية مزمنة، فهذا الهوس الجنوني بحماية الهوية المذهبية لا ينبع من حقائق موضوعية بقدر ما هو وساوس مرضية، تحاول التأثير على الرأي العام لإدامة زخم مثل هذه الشعارات التي بدورها تؤمن ديمومة هذه النخب السياسية قليلة الخبرة. فالمشاعر العدائية آخذة بالتوسع، وعوامل الإحباط أكثر من أن تذكر، وهذه كلها قنابل موقوتة وتشكل عوامل تغذية رهيبة لكل أشكال العنف في المستقبل
إن الاعتقاد المتعجرف بالصواب هو منبع واسع ورهيب لكثير من البلايا التي تحيق بنا، ومصدر كل بلايانا ومعاناتنا، حتى أن الساكنين في الأراضي الخربة "الحواسم" يعتقدون أنهم على صواب، وهم يستلهمون هذا الشعور من نخبهم التي تمارس معهم كل أشكال التضليل، لكن هذه النخبة السياسية ستكون نتيجتها على الأرجح هو السقوط في فخ العزلة الذاتية، حتى ولو بعد حين، فالمصالح الضيقة والهواجس الطائفية عمرها ليس طويلًا على الإطلاق.
اقرأ/ي أيضًا: