22-سبتمبر-2015

لاجئون سوريون قرب الأسلاك الشائكة التي تفصل الحدود بين صربيا وهنغاريا (Getty)

كما أن الغرب استمد نظرته إلى العرب وشعوب المنطقة من المستشرقين الذين، غالبًا، قدموا صورة نمطية عن هذه الشعوب أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها متجنية لاتبيح السيطرة عليهم فحسب، بل تجعلها مطلباً حضارياً وأخلاقياً! 

العرب وشعوب المنطقة رسموا صورة نمطية عن الغرب وبنوا، استنادًا إليها، مواقفهم منه

كذلك فإن العرب وشعوب المنطقة رسموا صورة نمطية عن الغرب وبنوا، استنادًا عليها، مواقفهم منه. استمد العرب نظرتهم هذه من تاريخ طويل من استعمار الغرب لبلدانهم بمختلف أشكال الاستعمار، ثم من ثقافة (اشتراكية) رأت في الرأسمالية الغربية شيطانًا، ليس سياسيًا وعسكريًا فحسب، بل اجتماعيًا وثقافيًا وأخلاقيًا وإنسانيًا أيضًا، ومن مزاعم بمواجهة الغرب الاستعماري والإمبريالي والوقوف في وجه مخططاته ومؤامراته... بدا الغرب انطلاقًا من هذ الصورة على أنه ذو نزعة استهلاكية، ترى الإنسان بوصفه شيئًا لا كائنًا حيًا، لا ينفك يؤسس لثرواته ويزيدها اعتمادًا على استغلال شعوبه وشعوب العالم، بدا أيضًا أنه لا أخلاقي بمقياس الأخلاق الزائف التي فرضه تاريخ التسلط الحكومي المتعاقب على الشعوب العربية... إلى آخر ما هنالك من تفنيدات تعرفها شعوب المنطقة جيدًا وتعيشها يوميًا.

لكن شدة العسف التي مارستها السلطات الوطنية على شعوبها، وانكشاف ادعاء المواجهة مع الغرب على أنه مجرد شعار يرمي إلى الإبقاء على تلك السلطات في الحكم وفي العسف، وتدني المستوى الاقتصادي وازدياد نسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر إلى أكثر من 40%، وتدني المستوى التعليمي، والتفكك المجتمعي، وغير ذلك... جعل الشعوب العربية تنظر بعين الريبة إلى الاستطلاعات الرسمية تجاه الغرب، وقد ساعد الانفتاح الاعلامي الكوني وانتشار الإنترنت وتبادل المعلومة السريع والرحلة اليسيرة للأفكار في خدش تلك الصورة ورجرجتها على نحو لم تعد هي نفسها.

لكن هذا الخدش في الصورة وتلك الرجرجة لم تكن ظاهرة عامة لدى شعوب المنطقة، بل اقتصرت على بعض الفئات المهتمة بشؤون التبادل الثقافي وتبادل المعلومة ومعرفة الآخر معرفة جديدة منقاة من شوائب الإرث الثقيل والزائف الذي خلفته أنظمة الطغيان ورديفها الثقافي عن الغرب لدى شعوبها، وحيث أن باب الهجرة إلى الدول الغربية لم يكن مفتوحًا، على الرغم من وجود الضرورة إليه، فإن إمكانية التعرف الواقعي والعياني إليها كانت ضئيلة للغاية.

تذكر تقارير الأمم المتحدة أن هجرة السوريين لم يسبق لها مثيل في تاريخ الشعوب في العصور الحديثة

مع المآسي التي حلت بالشعوب العربية؛ لبنان خلال الحرب الأهلية، العراق خلال الحرب العراقية الإيرانية، ثم التدخل الأمريكي وماتلاه من حكومات محلية ارتكبت وكانت السبب في ارتكاب الكثير من المجازر بحق الشعب العراقي، ثم، خلال السنوات الأخيرة، المأساة غير المسبوقة التي أحلها نظام البطش السوري بحق السوريين... كل ذلك أدى لهجرات جماعية تجاه الغرب الأوروبي.

تذكر تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية العالمية أن هجرة السوريين على مراكب الموت لم يسبق لها مثيل في تاريخ الشعوب في العصور الحديثة، تقول إن هذه الهجرة السورية الجماعية لم تحدث منذ الحرب العالمية الثانية. هذه الهجرة الجماعية أدت لظهور نوع معكوس من الاستشراق: راح العرب والسوريون يكتشفون الصورة الحقيقية للغرب التي بدا أنها تناقض الصورة التاريخية المظهّرة لهم. ثمة بعض المقالات، والكثير من الكتابات في وسائل التواصل الاجتماعي، والكثير، أيضًا، من المرويات غير المكتوبة بعد تكشف ما لم يكن معروفًا، أو أنه كان مغطّى بدعاية مضادة تقدم الغرب على أنه مجتمع/ مجتمعات من التوحش!

بدت الصورة (الاستشراقية المعكوسة) تنجلي عن مؤسسات حاكمة، وليس أفرادًا أو مجرد أحزاب تفعل مايحلو لها دون حسيب ورقيب، وبدا القانون ينظم العلاقة بين بين مؤسسات الدولة فيما بينها، وفيما بينها وبين الناس، وبدا القانون أيضًا ينظم التفاصيل الكبرى واليومية للناس، والأكثر أهمية أن الجميع يخضع له، وأنه يسري على الجميع دون أية اعتبارات غير قانونية. بدا مجتمعًا متماسكًا ينطوي على بنى أخلاقية صلبة، وبدا، غالبًا، أنه إنساني... لم يلحظ اللاجئ أو المهاجر أنه يعيش في بلد الكفر والمعصية والانحلال الأخلاقي.

وبذلك تكون الصورة التي بدأت تُخدش نتيجة انفتاح الإعلام وسهولة تبادل المعلومة والأفكار وغير ذلك، قد تم تحطيمها تحطيمًا كاملًا، ويجري الآن محاولة تظهير صورة جديدة عن الغرب، انطلاقًا من علاقة معيشية ويومية.. صحيح أنها منبهرة أكثر مما ينبغي ربما، لكن المهم في الأمر أنها صورة يشكلها ويرسمها الناس أنفسهم بأنفسهم، وليست صادرة إليهم أو مفروضة عليهم انطلاقًا من مواقف مسبقة إيديولوجية أو سياسية أو شعاراتية أو غيرها.