18-يناير-2024
أمن

السم هذه المرة ليس كاتمًا (تعبيرية/فيسبوك)

قبل مدة من الزمن جمعتني الصدفة مع صديق قديم، ولأنه مهتم بتاريخ إيطاليا الحديث، سألته: هل لا زالت المافيا تحظى بقوة مالية واقتصادية في إيطاليا؟ أجابني بالنفي، حيث قال: لقد انتهت المافيا كقوة فاعلة في المجتمع الإيطالي، ولم تعد ظاهرة الاغتيال والتصفيات الجسدية حاضرة في المشهد السياسي هناك.  لكن ثمّة ظاهرة، والكلام لصديقي، ظلت شاخصة ومهيمنة في سلوك المجتمع الإيطالي، وهي ظاهرة المحسوبيات، واستنساخ سلوك المافيا بطرق تعبيرية مختلفة. لقد تفشت ظاهرة الفهلوة، والتسلق على أكتاف الآخرين، والسمسرة الرخيصة، والربح السريع. كل هذا كان نتيجة منطقية لتوغل ثقافة المافيا في وجدان المجتمع الإيطالي. بعد أن كانت جهات مسلّحة تقوم بالتصفية الجسدية لخصومها السياسيين، بواسطة قوة من الملثّمين يجيدون الاغتيال بطرق احترافية، لم نشهد مثلها إلا بأفلام هوليوود، وهذا ما أتاحته لنا بعض الفديوهات التي انتشرت في حينها على إثر انتفاضة تشرين وهي تصور لنا هؤلاء الملثمين كيف يصفّون خصومهم باحترافية عالية. كل من يدلي معلومة حسّاسة تجاه هؤلاء يغدو في عداد الموتى. لكن على الأفعى أن تغيّر جلدها تحسبًا للقادم من الأيام.

كانت الولايات المتحدة تعلم بملفات الفساد المهولة التي تتعلق بالدولار في العراق

هذه المرّة "الخصم" المباشر هو الولايات المتحدة الأمريكية، تحصي أنفاس المسلحين، وترصف عشرات الملفات، وتستخدمها في الوقت المناسب الذي ينسجم مع التوقيت الأمريكي طبعًا، أي مع المصالح الأمريكية حصرًا. وهذا ما شهدنا في أزمة الدولار؛ حيث كانت الولايات المتحدة تعلم بملفات الفساد المهولة التي تتعلق بالدولار، لكن توقيتها الخاص جاء تزامنًا مع الاجتياح الروسي لأوكرانيا، وعلى إثر صفقة الطائرات الإيرانية المسيرة التي تزودت بها روسيا من قبل الحكومة الإيرانية، فجاء التشديد على حركة الدولار كوسيلة ضغط على الإيرانيين على إثر الحادث المذكور وليس لمصلحة العراقيين.

المهم في الأمر، بشكل عام، أحكمت السفارة الأمريكية الخناق على المسلحين، بحيث لم نعد نسمع عن اغتيال بالكاتم، أو خطف. لكن المسألة ليست بهذه السهولة على الإطلاق، فحتى لو غيرت الأفعى جلدها، فهي محافظة على سمّيتها شديدة التركيز، إذ يكفي لدغة واحدة أن ترديك صريعًا ومشلولًا بلا حراك. لكن السم، هذه المرة، ليس كاتمًا، وليس بالضرورة أن يكون موتًا فعليًا، وإنما موتًا رمزيًا عن طريق الاغتيال السياسي، وهذا الأخير إجراءاته شرعية تمامًا: إنه القانون، والاحتكام للقضاء، والبقاء على الأيادي نظيفة وبيضاء من كل سوء. أنت لا تحتاج أن تقتل ضحيتك برصاصة الكاتم وتقضي على أحلامه وتفجع أحبابه وتنهي كل حياته بلحظة واحدة، ما عليك سوى اللجوء إلى القانون وأن تدير الحبكة جيدًا. هل لديك مشكلة في عدد مقاعد البرلمان؟ هل تتخوف على مستقبلك السياسي من رجوعك إلى الخلف والهيمنة من قبل أغلبية لا يمكن التنبؤ بسلوكها، ويمكنها أن تبدد كل أحلامك؟ ما عليك سوى تأويل مفهوم الأغلبية، أو تأتي بما يسمّى "الثلث الضامن"، ومن ثم، وبقدرة قادر، تغدو أنت أغلبية وتتحكم بالمشهد السياسي برمته، لا بل يمكن إقرار موزانة لثلاث سنوات! ويمكنك أن تلغي مجالس المحافظات على إثر القوة التشرينية الصاعدة آنذاك، ومن ثم يمكنك، بعد امتصاص الغضب، ونسيان الضحايا، وفساد القوى السياسية الناشئة بعمومها، وانخراط البعض منهم مع "أعداء الأمس"، أقول يمكنك أن ترجع مجالس الانتخابات بهذه العبارة السحرية "الإلغاء ليس دستوريًا".

كل هذه المراحل لا تحتاج إلى حرب أهلية، ولا هي مستعدة لإخراج الكواتم السوداء مرة أخرى، وليست ثمة ضرورة لإخراج الملثمين من زواياهم الكئيبة مرة أخرى (ربما هم آلان في مراكز تجارية و اقتصادية مرموقة). هل تتخوف من شخصية سياسية يحتمل أن تتمرد يومًا ما؟ عليك أن تكون محترفًا في النبش في الملفات واختيار اللحظة المناسبة، عليك فقط أنت تتعلم تكتيكات الاغتيال السياسي.