11-يوليو-2020

يصنع الشباب وهم الغالبية العظمى لسكان العراق كتلة صلبة في مواجهة النظام السياسي (Getty)

تراوح الأزمة السياسية العراقية الحالية في مكانِها مُنذ قُرابةِ عقدين مما جعل الدولة تبقى في دوامة من الفشل والشلل السياسي الحاد، فقد عجز النظام السياسي عن إيجاد أي حُلولٍ وخُططٍ إصلاحية مُناسبة للتشظيات والتصدعات التي نالت وما زالت تنال من مشروع الدولة الديموقراطية في العراق، وبالتأكيد، فإن مرد هذا الإخفاق يُلاحق الفاعلين السياسيين العراقيين على اختلاف انتماءاتهم وتوجهاتهم.

استمرار النظام السياسي في العراق بهذه العقلية التقليدية المتصلبة سيزيد الأوضاع سوءًا وتشظيًا

ومن الواضح أن الأوضاع الاجتماعية في العراق تزداد سوءًا بوجود طبقة سياسية عاجزة ينخرها الفساد وتحركها المصالح، سواء كانت شخصية أو حزبية، ومقابل كل هذا، تسيطر حالة من الاغتراب السياسي يُغذيه الإحباط الشعبي الذي تعاني منه شرائح عريضة من المجتمع، وبات التشاؤم سيد الموقف، ومن هنا يأس الكثير من إصلاح النظام السياسي ومؤسساته، ولم تعد الناس تثق في الانتخابات كآلية إصلاحية للنظام السياسي يحتكر السلطة والريع والمشاريع، بينما تعيش الأغلبية الشعبية على الكفاف. ولذا أنا من الذين يؤمنون بأن استمرار النظام السياسي بهذه العقلية التقليدية المتصلبة سيزيد الأوضاع سوءًا وتشظيًا. أحاول في هذا المقالة المطولة رصد أهم أخطاء وعُيوب النظام السياسي في العراق ولماذا أتنبأ بانهياره وأرى من الضروري عدم السماح بديمومته. 

اقرأ/ي أيضًا: في ذكرى تحرير الموصل.. شروط الأزمات "باقية وتتمدد"

فلنتصور أننا نبني جِسرًا بقياسات هندسية رياضية خاطئة وبخرسانة أسمنتية هشة، كيف ستكون النتيجة؟ قد تكون الأمور طبيعية في البداية ويعمل الجسر بدون مشاكل وتعبر عليه المركبات، ولكن المنطق يقول إن انهياره أمر حتمي، إذ بمرور الوقت سيزداد الضغط على ركائز ودعامات الجسر الرخوة، وتبدأ بالتفكك بسبب أخطاء التصاميم الهندسية التي لا تنسجم مع الثقل فوق الجسر، إضافة إلى تأثير العوامل البيئية مما يجعل سقوطه مُجرد مسألة وقت. وهكذا استطيع تشبيه النظام السياسي في العراق الذي بُني على أساس خاطئ، فهو كالجسر الذي وصفناه تمامًا، حيث أن السياسة لها أيضًا هندستها الخاصة، وعندما تكون مقاساتها مبنية على رؤية قاصرة لا تنتج سوى الخراب، ولا يُمكنها الصمود مهما بلغت قوتها، ومهما حاول أصحابها تحصينها من الانهيار.

لا أحد يستطيع إخفاء حقيقة أن النظام السياسي العراقي تشكل وفق مُخططات رخوة، لا تنسجم مع أسس النظام الديمقراطي السليم، وبدأ هذا الخطأ مع كتابة الدستور بإشراف المحتل الأمريكي، وشخصيات لا تعرف شيء عن آليات كتابة الدستور، وقد فصل هذا الدستور الأعور للعراق نظام سياسي مُعقد قائم على التقسيم الطائفي المحاصصاتي للسلطة، واختراع مجالس المحافظات والبلديات، ومنح الساسة امتيازات فاحشة، ورسخ أقدام نُخب وأحزاب سياسية فاسدة، لم ينتح عنها إلا فساد دمر الحرث والنسل وحطم اقتصاد العراق، وبدد ثرواته وضاعف البطالة والمشاكل الاجتماعية، حتى أصبحت آفة الفساد في المشهد العراقي جزءًا بنيويًا في النسيج السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.

لم يُشكل الشعب العراقي أساس دستور 2005، ولم تشارك في صياغته النُخب الاجتماعية الفاعلة، وإنما جهات حزبية سياسية، وشهدت كتابته خلافات كبيرة قبل أن يتم توريط الناس بالتصويت عليه، وكانت ما يسمى "لجنة كتابة الدُستور" مجرد مظهر مزيف ولا تمتلك أي مؤهلات لكتابة دستور رصين يليق بالعراق وتاريخه وموروثه الاجتماعي. ولو أود أن استعرض فقرات الدستور المشوهة، فالكثير كتب عنها، ويكفي أن أذكر التناقض في ثلاث مواد، منها مثلًا المادة الثانية التي تعرف العراق على أنه دولة دينية، والدين مصدر أساسي للتشريع، وتتعارض بالمقابل هذه المادة مع المواد الأخرى التي تدعو إلى الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان، وفي ذات الوقت تتعارض فقرات هذه المادة مع بعضها بوضوح.

وفي المادة (111): (النفط والغاز هو ملك كل الشعب العراقي في كل الأقاليم والمحافظات) نكتشف كذب وزيف شعار هذا الدستور الذي لا يتطابق مع الواقع، فهذه المادة تقر بأن الثروات الريعية ملك للشعب، ولكن بالنظر للواقع، فهي في الحقيقة ملك للطبقة السياسية بالدرجة الأساس، وفي داخل المادة وردت عبارة (الأقاليم) وكأنها تصور أن العراق مقسم إلى أقاليم أو يجري إعداده للتقسيم الفدرالي. 

والمثال الثالث عن ضحالة هذا الدستور هو ورود عبارة (المناطق الأخرى المتنازع عليها) في المادة 140، ومن يقرأها، يظن أن هذه المناطق يتنازع عليها العراق مع دول الجوار وليس مع المنطقة الكردية. هذه العبارة الملغومة كفيلة بنسف الدستور لأنها تحرض على تقسيم العراق وتتعامل مع المنطقة الكردية على أنها دولة حدودية مستقلة وليست جزءًا من العراق الذي يمتد من زاخو إلى الفاو.

إذًا، أول ما يحتاجه العراق هو إعادة كتابة الدستور بغض النظر عن حجم دوره في الخراب السياسي لأنه كُتِبَ من دون إرادة ومشاركة شعبية حقيقية، ووفر شرعية للفساد السياسي والامتيازات الخاصة للساسة، وتعامل مع المنطقة الكردية على أنها كيان مستقل عن جغرافية العراق، ووظف كذلك للقضاء العراقي قاضٍ أوحد مدى الحياة، والذي وضع كل مفاتيح القضاء بيده وأصبح خير سند لانحراف السلطة وحامي عرين فسادها، ومن أجل إعادة كتاب الدستور بطريقة سليمة، فنحن بحاجة إلى هيئة من المثقفين والخبراء بالقانون والسياسة وبكتابة الدستور من مختلف شرائح المجتمع، ولديهم معلومات غزيرة عن تاريخ العراق ومكوناته وتقاليده وموروثه الاجتماعي لأن الكلمة الواحدة لها وزنها وأهميتها في الدستور، ولا يمكن كتابته بطريقة إنشائية، وبعد ذلك يتم التصويت عليه عبر الاستفتاء الشعبي، ومن حق الشعب رفضه أو الاعتراض على بعض بنوده.

كان العراقيون يمنون النفس بدولة ديموقراطية توفر لهم احتياجاتهم، وتحفظ لهم كرامتهم وتعوضهم من حرمان الحروب والديكتاتورية في إطار دولة عصرية متطورة ذات سيادة وشخصية وطنية، ولكن حصل العكس تمامًا، وباتت الدولة تمشي القهقرى، وسرعان ما وقعت بين رحى سلطة الفساد وتأييد الاستبداد والتطبيع مع الفساد كمنهج للحكم، ليصل كل ذلك بالعراق إلى حافة الإفلاس سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا. 

 يقول ابن خلدون عن دور الفساد في انهيار الدول، إن "انتشار الفساد يدفع بعامة الشعب إلى مهاوي الفقر والعجز عن تأمين مقتضيات العيش، وهو بداية شرخ يؤدي إلى انهيار الحضارات والأمم"، لقد كان ابن خلدون محقًا في هذا الرأي الحصيف الذي يعطي صورة مُختصرة عن الواقع المؤسف الذي وصلت إليه دولتنا اليوم نتيجة تراكمات الفساد والرشوة والتنصل عن المسؤولية السياسية والأخلاقية التي ضاعفت الفقر والبطالة والحرمان الاجتماعي، والتي قادت الوطن العراقي إلى شرخ سياسي وحضاري عميق  يتطلب عملية إصلاحية جذرية.

لم يكن لدى الطبقة السياسية التي حكمت العراق بعد 2003 أي مشروع دولة حقيقي ولم يكن لديها رؤية عقلانية للإصلاح السياسي والاقتصادي

قام النظام السياسي في العراق على خطأ فضيع بالتزامن مع كتابة الدستور، وهو مُحاصصة الرئاسات الثلاث والمناصب الوزارية، وأعضاء الهيئات المستقلة وتبنى سريعًا الثقافة الأوليغارشية القائمة على خدمة الأحزاب والطبقة السياسية وحاشيتها، وتهميش حقوق المواطنين ونهب ثراوتهم، وهذه الثقافة القائمة على رؤية مغلوطة، وعلى مبدأ الأستئثار بالسلطة، لم تنتج سوى العنف والصراع السياسي الانتهازي ومشاكل اجتماعية متشعبة مدعومة بغياب القانون والانفلات الأمني. وقد عملت وعمدت السلطة بعد 2003 على خنق العملية الديمقراطية والإجهاز عليها مع الحفاظ على شيء من الديمقراطية الصورية المُزيفة أمام الرأي العام، وفي الحقيقة لا يُمكن الحديث عن ديمقراطية حقيقية في العراق، لأن الديمقراطية الناضجة تتعارض مع الفساد أولًا وثانيًا تقف بالضد من مصادرة حُريات الناس، خصوصًا فيما يتعلق بنقد السلطة والحراك الشعبي والمطالبة بالحقوق ومُعالجة المشاكل المصيرية.

اقرأ/ي أيضًا: انتفاضة تشرين: البحث عن ممكن

إن الطبقة السياسية التي حكمت العراق بعد 2003 لم تأتِ بأي مشروع دولة حقيقي، ولم يكن لديها رؤية عقلانية للإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ويُمكن معرفة ذلك من خلال حقيقة أن الأحزاب الحاكمة لا تمتلك برامج سياسية مكتوبة، وهذه ربما حركة مقصودة لأن ذلك يُتيح المزيد من الحُرية للأحزاب التي سرعان ما انغمست في وحل الفساد وهدر المال العام، وإطلاق الوعود الخاوية، وأبقت الدولة في حالة من الركود والجمود، وهكذا سارت العملية السياسية العراقية في السنوات الأخيرة بشكل فوضوي، وتداخلت معها جميع أنواع الفشل والمصلحة النفعية الحزبية والفردية، والعلاقات والقرابة والعشائرية والواسطة والفساد الإداري بشكل عام، وقد سعت الأحزاب السياسية الحاكمة إلى تلويث عقول الناس بالخطابات الديماغوجية والوعود القشرية، ونظمت لهم آلاف الندوات والمؤتمرات وبذخت عليها المليارات من أجل كسب أصواتهم وتحويلهم إلى بيادق تحركهم متى ما أرادت، بمعنى أنها عمدت على تجهيل أكبر قدر ممكن من الجماهير لضمان دعمهم الطوعي وأصواتهم في الانتخابات، وقد نجحت في ذلك كثيرًا، وجعلت العديد من الناس يتعاملون مع الساسة بقدسية تامة، ويرفضون نقدهم أو التعرض لفسادهم، وبالتوازي مع ذلك، تبنت السُلطة الحاكمة أسلوب القمع والإقصاء بحق المُعارضين من أجل الاستمرار في السلطة والتفرد بها، وهذا الأسلوب الفاشي عطل الحياة وازدهارها، ووضع المُقدمات لانهيار النظام السياسي أخلاقيًا، وتحوله إلى سلطة معزولة منبوذة لا ترى في الوطن إلا نفسها وامتيازاتها، ولم تكن تظاهرات تشرين الأخيرة إلا دليل على حجم الكبت والرواسب السياسية المُحتقنة في النفوس، والتي لم يعد الناس تحملها، وقبل ذلك كانت خسارة بعض الساسة لمراكزهم في الانتخابات الأخيرة خير دليل على نفور الناس منهم بما في ذلك جمهورهم الخاص.

ولتوضيح الأساس الفاشل للعملية السياسية في العراق بعد 2003، وما حمل معه من كوارث، ارتأيت أن ألخص هذا الفشل على شكل نقاط عامة، لتتكون لدينا صورة شاملة عن فشل النظام السياسي :

  • الدستور العراقي ملغوم ومكتوب بلغة ركيكة وتمت كتابته بصورة غامضة مُستعجلة، وبإشراف الأجنبي الدخيل، وهو لا يصلح كأساس لمشروع سياسي ديمقراطي لأنه لم يُكتب بإرادة شعبية حقيقية، وتركز مواده على الاختلافات المذهبية والقومية والقبلية على حساب العراقيين ووحدتهم وفيه الكثير من العيوب والتناقضات.
  • تقاسم السُلطة وفق مبدأ المُحاصصة الطائفية وليس على أساس الكفاءة والنزاهة.
  • اختراع نظام مجالس المُحافظات والبلديات الذي لا ينسجم مع وضع العراق.
  • فوضى الأحزاب وسيطرة المال السياسي على الانتخابات.
  • العصبوية السياسية واستغلال الدين في السلطة من قبل أحزاب الإسلام السياسي.
  • البرلمان المُنتخب يولد بالدرجة الأساس من رحم أحزاب سياسية فاسدة مُحددة تُسيطر على المُجتمع بالمال والنفوذ وبذلك يكون ولاء أغلب أعضاء البرلمان للحزب وليس للوطن والشعب.
  • غياب المعارضة القوية داخل البرلمان.
  • فشل السلطات التنفيذية التشريعية والقضائية، إذ أن رئيس مجلس الوزراء ضعيف القرار ولا يتمتع باستقلالية، والبرلمان لا يؤدي دوره الرقابي والتشريعي، ويقابل ذلك ضعف في الجهاز القضائي، وعجزه عن لجم الفساد في مؤسسات الدولة، ولا يوجد أي تنسيق واتفاق بين الجهات الثلاثة على محاربة الفساد.
  • عدم استقلالية المفوضيا العُليا (المستقلة) للانتخابات.
  • منح الامتيازات الفاحشة والرواتب الضخمة للساسة والمستشارين وحاشيتهم من دون جُهد يُذكر.
  • انتشار ظاهرة مزاد العُملة وغسيل الأموال المُرتبطة بأصحاب النفوذ والمسؤولين البارزين في العملية السياسية.
  • غياب الهوية الوطنية لدى الطبقة السياسية العراقية.
  • عدم استقلالية رأس القضاء العراقي فهو مسييس ومسير من قبل السلطة، ولذلك أصبح من الطبيعي أن نرى مُجرمًا تتم تبرأته وبريئًا تتم مُحاكمته.
  • منح شرعية دائمية لمدحت محمود، ومن معه، مقابل تحويلهم إلى بيادق تتحكم بهم الأحزاب بهدف طمطمة فسادها وضمان حريتها اللصوصية.
  • عدم وجود إرادة سياسية حقيقية أو رغبة في التغيير.
  • عدم وجود نظام اقتصادي معروف في العراق سواء كان اشتراكيًا أم رأسماليًا أم غير ذلك، وهو عبارة عن تدوير وهدر للأموال من دون أي مُخطط اقتصادي واضح.
  • قطاع النفط محكوم للفساد المشترك بين الشركات الأجنبية والسلطة السياسية، وتقول التقارير إن هناك رشاوى بالملايين للفوز بصفقات نفطية بالعراق.
  • عدم السيطرة على تهريب النفط سواء في الجنوب أو في الشمال.
  • إحكام اقتصاد الدولة للثروات الريعية وغياب الاقتصاد الإنتاجي الفعال.
  • النظام السياسي محكوم للتبعية الخارجية ولا يستطيع حماية سيادة الدولة.
  • الفشل الأمني الذي يتمثل في ضعف جهازي المخابرات والاستخبارات.
  • تسييس الإعلام وإخضاعه لصالح السلطة السياسية.
  • تهميش الكفاءات النزيهة المُستقلة وتوجيه الدعم فقط لمن يعلن الولاء للأحزاب.
  • السماح بانتشار السلاح والفصائل المسلحة ومنحها سلطة أقوى من القوات الوطنية.
  • عدم مُحاسبة الفاسدين والسماح لهم بالهروب والسفر للخارج.
  • الفشل في رسم خطة لتوفير الخدمات الأساسية والجوهرية للمواطنين.
  • عدم وجود خطة لتعزيز الصناعة والزراعة والاعتماد على الاستيراد الخارجي وغياب الدعم للفلاحين.
  • إهمال مراقبة الحدود الجغرافية للدولة العراقية وضعف التعامل مع القضايا الإقليمية.
  • ضعف التمثيل الخارجي للعراق سواء في الأمم المتحدة أو في العلاقات الدولية الخارجية.
  • إخضاع التوظيف الحكومي لثقافة الواسطة.
  • عسكرة المجتمع وإعطاء الأولوية للجهد العسكري على حساب بقية القطاعات.
  • انتشار الفساد الإداري والبيروقراطية في المؤسسات والدوائر.
  • هدر الثروات دون إقرار أي مشروع إعمار أو إسكان للطبقة الفقيرة.
  • عدم وجود عدالة اجتماعية في توزيع الثروات ومنح الرواتب للمواطنين.
  • استغلال حاجة الموظفين للمال بالتسليف الباطل والاعتداء على رواتبهم واجبارهم على دفع فوائد ثقيلة.
  • تدمير الثقافة والفن وعدم وجود أي برامج داعمة للحراك الثقافي.
  • لم تسعَ السلطة لإصلاح التعليم بل استمرت في افقاره وتدميره ولم ترسم منهج صحيح لبناء الإنسان.
  • تزوير الشهادات المدرسية والجامعية والشهادات العليا ومنح مقاعد الدراسات العليا على أساس الواسطة.
  • ضعف القطاع الصحي وعدم وجود خطة حقيقية للارتقاء به وغياب نظام التأمين الصحي العادل.
  • المشاريع التي تم تنفيذها محكومة للمقاولين الفاسدين ممن لهم علاقات مباشرة سياسية مع المسؤولين مما كبد الدولة خسائر فادحة.
  • البناء العشوائي، إذ لا توجد خطة للتحديث العُمراني وقد تحولت الأرض العراقية إلى تنافس على البناء المدفوع من قبل سماسرة السلطة من دون أي تخطيط يُذكر.

النقاط المذكورة أعلاه مُجرد لمحة سريعة عن عيوب العملية السياسية وتشققاتها، والتي توضح أن أزمة العراق ناتجة من الأزمة الهيكلية المتعددة المستويات التي يعاني منها النظام السياسي الذي يسعَ إطلاقًا لمكافحة ظاهرة الفساد وتحجيمها، وفي الحقيقة، فإن تشوهات النظام السياسي العراقي لا تُعد ولا تُحصى، وهي تمتد إلى أصغر مؤسسة في الدولة، وتحتاج لبحث عميق ومفصل، رغم أنني مؤمن أن الخلل السياسي معروف ومُشَخَص سلفًا، ويتبقى أن ينجح الشعب في تفكيك هذه العملية السياسية الفاشلة بالوسائل السلمية وإصلاح عيوبها المذكورة وتحديث بُنيتها المُهترئة وتحقيق التحول والانفتاح الديمقراطي اللازم.

إمكانيات انهيار النظام السياسي وضرورات عدم استمراره

في فضاء السياسة لا يوجد شيء ثابت، وحتى أعتى الديكتاتوريات في التاريخ، رضخت وانهارت، ولنا الكثير من الأمثلة المعاصرة، منها الاتحاد السوفيتي أو إسقاط نظام بينوشيه الديكتاتوري في التشيلي رغم القمع وحظر التظاهر، وصولاً إلى تجارب الدول العربية مع الحقب الديكتاتورية مثل مصر وتونس، وما يمكن قوله إن نظامًا سياسيًا هشًا وعاجزًا كالذي يحكم العراق لا يُمكن إلا التنبؤ بانهياره، فهو كما ذكرت سلفًا أشبه بالجسر الآيل للسقوط.

إن أول عامل يُشير إلى حتمية انهيار النظام السياسي الحالي هو تجرده من الشرعية، لأن النظام السياسي يكون شرعيًا في حال أدى مهماته عند الحد الذي يشعر الناس، أن النظام صالح ويستحق التأييد والطاعة والدعم والاستمرارية، وأن يشعر المواطنين أن سلطة بلادهم هي سلطة وطنية مُخلصة لشعبها، وللقيم الاجتماعية العامة، والعامل الثاني، هو اهتزاز ثقة المواطن بالسلطة جراء غياب الفعل السياسي، وما صاحبه من تصدعات وتشوهات وفشل للنظام السياسي الذي عمق الإحباط ودواعي العزوف عن السياسة لدى المواطنين، وبما أن مُهمة سلطة الدولة حماية المجتمع وأفراده وتقديم الرفاهية لهم، فإن عجزها عن تحقيق ذلك يعني مبدئيًا خسارتها للتأييد الشعبي.

ومن أسباب انهيار الدول والحضارات هو وجود سلطة حاكمة تحرص في سلوكها السياسي والأخلاقي على الجشع والترف حسب ابن خلدون، إذ ينتقل عندها الشعور بالمسؤولية الاجتماعية والسياسية والعسكرية والاقتصادية إلى شعور سحق الجميع من أجل المصالح الخاصة والترف  المفرط والرفاهية. ثم يقول ابن خلدون في هذا الصدد "ويبلغ فيهم الترف غايته بما تبنقوه (بما تنعموا به) من النعيم وغضارة العيش، فيصيرون عالة على الدولة" ويضيف: "بل أنهم مع هذا، يحاولون إظهار القوة من خلال احتكار السلاح والجيش، وذلك لقمع الناس إذا أرادوا الثورة ومواجهة استئثار هذه النخبة الحاكمة للسلطة والثروة".

النظام السياسي في العراق معرض للسقوط لأنه لا يمتلك شرعية ولا يؤدي مهماته في خدمة الناس وتوفير حقوقهم 

المتسلطون السياسيون هم كما يقول ابن خلدون، عالة على الدولة، بعدما بلغوا أعلى مراتب الترف والاستهتار بالمال العام وثروات البلاد، ولا يمتلكون في جعبتهم أي مشاريع ناهضة، وإنما يسعون للاستمرارية وحفظ امتيازاتهم، ولذلك سخروا المال والسلاح والقوة الداخلية والخارجية، وكل شيء في مواجهة التغيير الذي ينسف وجودهم ويبني مشروع الدولة الرائد. ثم يفصل ابن خلدون عملية انهيار السلطة المترفة بقوله: "فإذا جاء المطالب لهم (التظاهرات أو الثورة) لم يُقاوموا مدافعته، فيحتاج صاحب الدولة حينئذ إلى الاستظهار بسواهم من أهل النجدة، ويستكثر من الموالي (الدعم الخارجي)، ويصطنع من يُغني عن أهل الدولة بعض الغناء، حتى يتأذن الله بانقراضها، فتذهب الدولة بما حملت".

اقرأ/ي أيضًا: الموت والسلطة

ومن الأسباب المؤدية إلى انهيار وسقوط النظام السياسي الحالي هو تمسكه بمبدأ العنف والعنف حسب المنظرة حنة آرنت يُدمر السلطة، وأن التفاعل السياسي سيضيع عن طريق اللجوء للعنف، وبدلًأ من أن يطغى الدعم المتبادل بين المجاميع الاجتماعية، يتم استخدام السلاح ضد المُعارضين للسلطة، وهنا يصبح العنف تعبيرًا استبداديًا على حساب رغبة الناس، وهذا مؤشر يعكس عجز السلطة، وترى آرنت أن "العنف المكشوف يحدث عندما تفقد السلطة قوتها". وفي ظل غياب الرؤية السياسية وعجز الساسة عن إيجاد الحلول الواقعية المُناسبة لإدارة شؤون الدولة، ومع عدم وجود مؤسسات قوية وغياب التوازن بين المؤسسات التنفيذية والتشريعية والقضائية، ستتفاقم المشاكل الاجتماعية أكثر، وكلما حاولت السلطة إصلاح الوضع دون إصلاح جذري للنظام المعطوب، تتضاعف وتتشعب المشاكل، لأن الصواب لا يجتمع مع الخطأ في ذات الوقت، والفساد والإصلاح لا يجتمعان معًا كما لا يجتمع الخير مع الشر، فهل من المنطقي مثلًا أن يُطالب الساسة بالقضاء على الفساد، وهم يمارسون الفساد، وهل مثلًا، يصح أن تدعو السلطة إلى احترام القانون وتستثني نفسها وحاشيتها منه، وهل من العقل والحكمة أن يؤمن ساسة الدولة بوجود الديمقراطية وهم يُصادرون حريات الناس وحقوقهم، وهل حقًا يُمكننا أن نؤمن بشعار القانون والشارع محكوم للانفلات الأمني، أو هل من المعقول أن يدعو الدستور للتوزيع العادل للثروات، وفي الواقع؛ يعيش ملايين الناس تحت خط الفقر بسبب فساد السلطة التي تشرف على هدر الثروات؟ 

هذه التناقضات الحادة وغيرها الكثير، تشير إلى وجود خلل في المنظومة السياسية وأزمة بنيوية سياسية واقتصادية ومجتمعية لا يستطيع العراق تجاوزها مع السلطة الحالية، وتشير هذه التناقضات كذلك إلى وجود انفصام سياسي يسيطر على عقلية المسؤولين، فهم يعيشون في عالم من السراب الباذخ، ويصرون على صواب الخطأ القائم وتنزيه أنفسهم وتصديق وهمهم، وهنا نتحدث عن حالة من حُب الذات وجلد الذات في آن واحد، والرغبة في الاستئثار الدائم بالسلطة. بمعنى أن النُخب السياسية لا تبدي أي رغبة في التنازل عن سلطتها أو الاعتراف بأخطائها وتلبية مطالب المجتمع، بل على العكس، تسعى إلى زيادة عُنفها ضد المعارضين وشرعنة استمرارها بالحكم لأطول فترة مُمكِنة مع التمسك بسياستها الفاشلة.

مع هذه التوحش السياسي يزداد الثقل على الدولة لأن الحاكم يرفض الانصياع، وفي ذات الوقت عاجز عن تقديم الخدمة وإقامة مشروع دولة حقيقي، وهنا تصنع السلطة الضغط على نفسها بنفسها، وتصل إلى طريق مسدود وتدخل الدولة في دوامة من الاغتراب السياسي والتحلل والانقسام العمودي والأفقي الذي لا ينتهي إلا بانتهاء سلطة الفساد وتبني مشروع الإصلاح الشامل. ومع عجز النظام عن السيطرة على الشروخ المتفاقمة ووضع أُسُس نظام سياسي ديمقراطي يضمن حقوق الناس ووحدة الدولة وتماسكها الاجتماعي، تزداد التحديات على السلطة ويزداد نفور الشعب منها وكرهه لها، مما يفضي إلى فجوة سياسية بين الشعب والسلطة، وتكبر هذه الفجوة بقدر إصرار السلطة على البقاء ومحاولتها تسيير الشأن العام وفق منطق الاستحواذ والإقصاء والاستخفاف بمطالب الإصلاح والتغيير.

إن تراكم الأزمات الداخلية في الدولة العراقية وعدم القُدرة على التعاطي معها سيقود الدولة إلى العُزلةِ الداخلية والخارجية والدمار الاجتماعي والاقتصادي ويجعل السُلطة تفقد حواضنها الاجتماعية والدولية مع انتشار فضائحها على نطاق واسع، مما يجعلها سريعة التداعي أمام أي حراك شعبي، وقد اثبتت التظاهرات الأخيرة مدى هشاشة هذا النظام السياسي، وكان اللجوء للقمع والاغتيالات دليلًا دامغًا على أن السلطة لم تعد تمتلك غير الدفاع عن نفسها بالسلاح واتهام شباب الحراك بالانجرار وراء المؤامرات، وهذا الأسلوب الفاشي ضاعف خصومها ووضعها في موقف المواجهة المباشرة مع الشعب، وموقف معيب أمام الرأي العالمي العام ومنظمات حقوق الإنسان، وكان الحراك الشعبي الأخير هو بمثابة بداية سقوط النظام السياسي، ولذا، المرجح هو عودة الزخم الجماهيري مع الانهيار الاقتصادي الذي تشهده البلاد، ولا أظن أن النظام لديه النفس الطويل لينجو من الغضب الشعبي القادم، أو لديه وسائل أخرى يشرعن فيها استمراريته التي باتت على المحك.

لم يعد الشعب العراقي يتحمل هذا الوضع المأساوي للدولة والطغم المتسلطة عليها، فقد قامت هذه الاولغارشيات الفاسدة باختطاف الدولة بقوة القمع وأساليب الخداع وارتبط ذلك بانحدار الثقافة السياسية، وتحويل حكم الدولة إلى ملكية خاصة لفئة معينة، مما جعل المسار السياسي العراقي يزداد تناقضًا وتمزقًا وقابلًا للانفجار في أي لحظة. ومن العوامل المساعدة على انهيار النظام السياسي الحالي، هي شجاعة الجيل الجديد، فهو جيل جريء مُحب للحياة والحرية والانفتاح، وعندما يلاحظ هذا الجيل أن محيطه لا تتوفر فيه شروط العالم العصري الذي يحتاج،  فلن يتردد في الدفاع عن حقوقه المستلبة، وقد بدا ذلك واضخًا في انتفاضة تشرين، فما الذي يدفع الشباب على هذه المواجهة الشرسة والتضحية بأرواحهم غير رغبتهم بالتحرر من طوق الفساد والاستبداد السياسي؟ وهنا أتحدث عن سخط شعبي فتي مليء بالطاقة والحماسة، والمعروف أن الشباب يشكلون اليوم الغالبية العظمى من نسبة سكان العراق، ما يجعلهم يصنعون كتلة صلبة في مواجهة النظام السياسي. إن الإصلاح ومحاربة الفساد لا يتم بالنية فقط، بل بأفعال واقعية ملموسة، يرى المواطن آثارها في السياسة والاقتصاد والثقافة، ومن السذاجة أن نعتقد أن السلطة التي دمرت مرتكزات الدولة يُمكنها تحقيق مشروع الإصلاح فكيف للفاسد أن يكون مصلحًا؟ 

إن تمسك السلطة بحكم الدولة بطريقة عصبوية رجعية ذات نزعة أحادية، واستمرارها في النهج المناقض لحقوق المواطنة والديمقراطية والحداثة، وخنقها لمشروع النهضة والبناء والإعمار سيفضي إلى مزيد من التأزم والعقم السياسي، وقد أدخل هذا النهج السياسي الإقصائي النظام السياسي في أزمة هيكلية التي سرعان ما تحولت إلى أزمة مجتمع كامل، أضرت بانسجاميته إلى الحد الذي جعل البعض يُطالب بتقسيم العراق إلى ثلاثة أقاليم. هذا اليأس الاجتماعي سيتحول إلى قوة ضاغطة ويتوسع ضغطها باتجاه السلطة مع اصرار الأخيرة على إبقاء الدولة في سجن الرجعية السياسية وتوريث الفساد.

تراكم الأزمات الداخلية في الدولة العراقية وعدم القُدرة على التعاطي معها سيقودها إلى العُزلةِ الداخلية والخارجية والدمار الاجتماعي والاقتصادي

أن فشل الحكومة في انجاز مشروعها التنموي واصرارها على الفشل ونخر سيادة الدولة وإضعاف القانون والنظام ومصادرة قيم المواطنة والحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، هو بمثابة معول يهشم ثوابت الدولة ومدخل إلى تحلل وتآكل النظام الذي لم يعد قادراً على تحمل هذا الكم الهائل من الرواسب وهنا أعني بالتحديد أن النظام السياسي في العراق لم يعد لديه القُدرة والقابلية على استيعاب ومعاجلة جميع العوائق التي ضربت عمق الدولة العراقي, بل هو يُضاعفها لأن أساس النظام مبني على انحراف حاد ومحكوم للفساد ولذلك لا يستطيع تقديم شيء ولا يُمكنه استنهاض نفسه بعدما سقط في هذا الخندق الغائر من العجز والفشل، ما يجعله يُدافع فقط عن مصالحه وإبقاء السلطة في قبضته وهذا يعني عملياً أن السلطة تقص  في الغصن الذي تجلس عليه في الوقت الذي تتشعب فيه المشاكل، مشكلة طوق ضاغط حول السلطة. وبالنظر للأسباب المذكورة، يُمكن القول أن النظام السياسي الحالي إما سيسقط سقوطًا حرًا لأسبابه طبيعية كالفساد والفقر والظلم أو سقوطًا مدفوعًا بالتحرك الشعبي.

اقرأ/ي أيضًا: متى تغيب الدولة ومتى تحضر؟!

لقد تم في السنوات الأخيرة العمل على تحويل العراق إلى دولة ريعية غنائمية، وتعاملت السُلطة وبطانتها مع أفراد المجتمع كونهم فريسة لا تستحق الرأفة، وفرضت عليهم القوة القهرية، ولم تسعَ إلى توفير الحياة الكريمة لهم، وبقت تحتكر الثروات الريعية لصالحها، وهذه الذهنية الاستبدادية تدل على ضحالة المستوى الثقافي والموضوعي للطبقة السياسية وتحتاج بالطبع لقوة شعبية مضادة.

وقبل الحديث عن هذا الجانب، أود ذكر أن النظام السياسي في العراق مصاب بثلاث عُقد مُزمنة:

  •  العُقدة الأولى، هي الشعور بالنقص والمظلومية الدائمة، وأعني بذلك أن الطبقة السياسية تحاول دائمًا التذكير بأنها ضحية الديكتاتورية، وإنها صاحبة بطولات غابرة وهي تحكم العراق كاستحقاق لها، مقابل سنوات نضالها في الخارج ولم تطوِ صفحة الماضي وراءها، وأنما ركزت على الاستحواذ المادي والسياسي وتعويض حرمانها، وبقيت تلعب على وتر التذكير بأخطاء النظام السابق وجرائمه في كل حادثة ومناسبة للتنصل عن المسؤولية، دون أن تقابل الأخطاء السابقة بأفعال حقيقية وقيم أخلاقية مضادة على أرض الواقع ، تجعل المواطن يؤمن أن من جاء هو افضل ممن ذهب ولذلك نلاحظ أن الكثير من الأصوات المعارضة للسلطة سرعان ما تتهم بأنها أصوات بعثية تحريضية تسعى النيل من وحدة العراق.
  • العقدة الثانية للسلطة تتمثل في أن النخب الحاكمة لم تنسلخ عن التبعية والعبودية الخارجية، وتتحرر منها وبقيت مرتبطة بالدول التي آوتها ارتباطًا وثيقًا، وتقدم لها التنازلات وما زالت، وجردت نفسها من الشخصية والهوية السياسية الوطنية، وبقيت حبيسة الجمود والتبعية والارتهان للأجنبي، ولذا لا غرابة أن تعجز سلطة العراق عن لجم التدخلات الدولية والاعتداء على سيادة العراق، ومثلًا، استخفاف تركيا بمياه وحدود العراق هو نابع أصلًا من حالة ضعف سيادة الدولة وإيمان تركيا بعدم وجود هيبة وشخصية لدى سلطة العراق.
  • العقدة الثالثة هي عدم الاعتراف بالأخطاء والاستماع للناصحين ورمي المعارضين مرارًا وتكرارًا بتهمة المؤامرة الخارجية وزعزعة الأمن وإثارة البلبلة، وهذا السلوك العنجهي عمق فشلها وإخفاقها السياسي والاقتصادي.

هذه العقد الثلاث أضعفت شخصية السلطة وجردتها من المهنية والهوية الوطنية، وأبعدتها عن التخطيط للمستقبل وأبقتها في دوامة من الشعور بالمظلومية الدائمة واستخدامها كمسوغ لحكم الشعب بالإكراه والشعور بالأفضلية، إضافة إلى عقدة الخضوعية للأجنبي الذي احتضن أفراد السلطة في سنوات المعارضة وإصرار السلطة على عدم التفريق بين عِرفان الجميل وبين الحفاظ على هيبة الدولة وعدم المجاملة على حساب سيادتها وهويتها مع عدم الاعتراف بالفشل، وبالمسؤولية وتقبل النصائح والاستجابة للمطالب الشعبية. إن هذا السلوك النفسي سيطر على عقلية السلطة طوال سنوات وجعلها غير قابلة للمرونة في التعاطي مع الأزمات، وتنظر إلى موضوع مثل الاستقالة وإتاحة الفرصة لمن هو أقدر على أنه خطيئة كبرى.

 من الأسباب التي تجعلنا نؤمن بضرورة التخلص من هذا النظام السياسي هو افتقاره إلى أخلاق المسؤولية والسياسة اللازمة، وحتى وإن كانت هناك نظريات تقول إن السياسة لا تجتمع مع الأخلاق لكن تبقى السياسة بحاجة لشيء من الأخلاق، وتحتاج إلى ساسة يتمتعون بصفات الحُرص والصدق والمسؤولية الأخلاقية تجاه وطنهم وشعبهم. يقول إيمانويل كانط "السياسة الحقيقية لا يُمكنها  أن تتقدم خطوة واحدة ما لم تضع الأخلاق أولًا". وحسب عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، فإن هناك ثلاث صفات يجب أن تتوفر  في السياسي "الرغبة والشعور بالمسؤولية وبعد النظر"، ويضيف فيبر أن "أخلاق المسؤولية في السياسية أهم أخلاق الموقف وأن دافع العمل الذي نقي أخلاقيًا أكثر أهمية من نتيجة الفعل". وعلى ضوء قول كانط وفيبر، يمكن القول إن فساد السياسة هو نتاج فساد الأخلاق وضعف الشعور بالمسؤولية وضعف العقل العملي، وانسياقه وراء الشهوات، ولذا لا فائدة من بقاء سياسي لا يتمتع بهذه الصفات ولا يسعى لاكتسابها.

ومن الأسباب الأخرى التي تحاكي ضرورة تفكيك النظام السياسي الحالي، هو تحطيمه للبُنية الوطنية وإبقاء الفكرة الوطنية شاغرة لا قيمة لها في الوقت الذي ذهبت الأحزاب السياسية لتستغل الشباب وتجندهم لصالحها تحت شعار (تمكين الشباب) وعزلهم عن الواقع، ليشكلوا السور الحامي لسلطة الفساد من المعارضة الشعبية، وقامت بنقض العلاقة الأخلاقية بينها وبين الشعب، وعززت في ذات الوقت الولاءات الحزبية والعلاقات القرائبية، ليتم إقصاء المواطن من جوهر الدولة، ولم يدع هذا السلوك المُنحرف المُشبع بالأنانية أي مجال لإقامة علاقة بين الحاكم والمحكوم على أساس المواطنة، وإنما قامت السلطة بتبني مبدأ الرعوية والتمييز. وما نحتاجه نحن هو دولة مواطنة ديمقراطية قائمة على الحرية والعدالة الاجتماعية، ومن هذا المنطلق يجب أن يعي شباب العراق خطورة الوضع في وطنهم ويرفضوا التعامل مع السلطة المتحايلة ويحرصوا على الدعوة إلى القضاء على الفساد، وإعادة الاعتبار لوظيفة الدولة وبناء نظام ديمقراطي ناضج يرتكز على الإصلاح الفعلي.

لقد أفرطت السلطة في السنوات الأخيرة  في الحديث عن محاربة الفساد، لكن دون أن تقدم تصورًا واضحًا للقضاء على هذه الآفة الخطيرة، وثمة بالطبع فرق شاسع بين محاربة الفساد قولًا وفعلًا، وقد حاولت السلطة السياسية إطلاق الوعود وتحسين سمعتها ببناء مشاريع صورية مثل الملاعب ومراكز التسوق والمطاعم التي يقف وراءها متنفذين سياسيين والهدف منها، إلهاء الناس عن المشاكل الجوهرية وتصريف السيولة المالية الضخمة، وتحويل المجتمع إلى مجتمع استهلاكي كسول، وفي الحقيقة؛ هذه خطط ترقيعية ومحاولة لتلميع صورة النظام الفاسد، وأن هذه التوجهات التي تبادر بها السلطة بين الحين والآخر لا تتماشى مع ضرورات ومتطلبات التغيرات التي يعرفها الجميع في العراق، وأولها هيكلة النظام السياسي وإتاحة الفرصة للكفاءات التكنوقراطية، ورسم  إستراتجية سياسية واقتصادية واضحة لنهضة الدولة، وتجنب الاعتماد الشكلي للانتخابات الدورية التي تسيطر عليها الأحزاب بالمال والدعايات الضخمة وحشر الشعارات الدينية التي تهدف إلى إعادة تدوير نفس الوجوه وفق مبدأ الاستخلاف لا التغيير الجذري الشامل الذي بات ضرورة حتمية للعراق من أجل تجنب هول حدوث كارثة اجتماعية أو حتى حرب أهلية مستقبلية يفرضها الفساد ورعونة السلطة وحاشيتها.

إن قضايا مثل تفشي الفساد الإداري والرشوة المحسوبية والبيروقراطية المزمنة، واستغلال المنصب، وعدم الاخلاص في العمل وإناطة المسؤولية إلى شلة من غير المؤهلين والنصابين والفاسدين تعني المزيد من الكبت والمعاناة، التي لا تنتهي إلا بالقضاء على المهزلة السياسية التي تدور رحاها منذ قرابة عقدين من الزمن.

لقد فاحت رائحة الفساد والعصبية المُتجذرة في الأحزاب السياسية الطائفية للنظام السياسي العراقي، وقد خسرت السلطة ثقة الناس ونفدت جميع فُرصها، ولم يعد بالإمكان التسامح والتعامل معها، ولم يعد بإمكان العراقيين الانتظار أكثر من ذلك، فقد بلغ السيل الزبى في الوقت الذي يشهد فيه العراق تحول ديموغرافي وانفجار سكاني كبير، ويقابل ذلك، نقصًا في مشاريع الإسكان والإعانة الاجتماعية، ما يجعل الدولة تقف على برميل بارود، ولهذه الأسباب أقول إن من يريد النهضة للعراق، ومن يحبه بصدق، فعليه التخلص من مُتلازمة الدونية والانقياد والتطبيل الأعمى للسلطة والمُساهمة في تفكيك هذا النظام السياسي الذي  دخل فعليًا في مرحلة العد التنازلي، ولذا أرى أن هذه فُرصة حاسمة لإخضاعه وعدم السماح له بتجديد فترة حياته السامة، وإما السكوت عنه فذلك يعني المزيد من التشظي على جميع المستويات وأن الفساد سيزداد عفنه كلما طال تخميره.

الشباب يشكلون اليوم الغالبية العظمى من نسبة سكان العراق، ما يجعلهم يصنعون كتلة صلبة في مواجهة النظام السياسي

إن الاستيلاء على السلطة والتمسك والتفرد بها، وتكرسيها في خدمة جماعة وأحزاب سياسية فاسدة على حساب الشعب ورغمًا عنه، هو جريمة وشر مُطلق لا يجب أن يبقى ويقتضي تحرك ورفض شعبي واسع النطاق، وهذا يستدعي مزيدًا من الصبر والثبات والنضال الديمقراطي السلمي كالتظاهر والإضراب والاعتصام والعصيان المدني، لربح المعركة أمام السلطة دون الخنوع والانقياد والتسليم، ومن المهم أن نعرف كيفية مواجهة عفاريت النظام السياسي بصفتهم  القوى الفاسدة التي نهبت ثروات البلاد، والتي تتحمل مسؤولية الأزمة الاقتصادية والسياسية والمجتمعية في العراق، والأهم من ذلك أن نؤمن في أن مسألة الإصلاح السياسي الجذري والتحول  الديمقراطي السليم في بلاد الرافدين بحاجة إلى شحذ الهمم وإرادة شعبية قوية تقودها النُخب الوطنية، هدفها التغيير العميق بالوسائل السلمية وتحرير العراق من عقلية الهيمنة المُطلقة على السلطة والتسيير الأحادي للدولة، وإعادة تشكيل البرلمان وقانون الاحزاب أو تغيير نظام الحكم في حال رغب الشعب بذلك وبناء دولة الحق والقانون والمواطنة والإنسانية والديمقراطية، ومن أجل وطن مُزدهر يكفل الحُريات وخالٍ من الفقرِ والتمايز الطبقي والتقاسم المحاصصاتي للسُلطة وضمان مُستقبل أجيال العراق الناشئة، فالشعب مُطالب اليوم برص الصفوف والتعاضد والتعاون ضد الفساد السياسي من مُنطلق قول الشاعر : لولا التعاونُ بين الناسِ ما شرفت نفسٌ ولا ازدهرت أرضٌ بعمرانِ!

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

معيار الانحياز لا معيار الكفاءة.. أفكار في الثورة

لقد كان في قصصهم عبرة