23-يونيو-2020

تحتاج الدولة إلى قبول اجتماعي يمنحها الشرعية (فيسبوك)

في البدء لا أقصد بمفردات - الحضور والغياب ـ التواجد والغياب المكاني، بقدر ما أعني بها النجاح وما يقابله، الإخفاق أو العجزُ او حتى الفشل، فحضور الدولة هو ما تستطيع أن تقدمه بوصفها دولة. وبعبارة أدق حضورها باعتبارها ناظمًا للأمة ومسيّرًا للحياة اليومية، حضورها باعتبارها جهازًا منبثقًا عن تلك الأمة/المجتمع، هذا الجهاز اصطناعي انتجه المجتمع لا مفروضًا عليه، ومن جملة التعريفات التي توصف هذه الكلمة (الدولة) أجدني أكثر ميلًا إلى تعريف فردريك أنجلس الذي يؤكد على أنها وليدة مجتمع ما في لحظة تطور وتورّط في آن واحد، والتورّط الذي يشير اليه انجلس يقصد به التضاد أو الانقسام الذي يحدث بين طبقات اجتماعية لكل منها مصلحته الاقتصادية التي تتنافى وتتقاطع وتتقاتل حتى مع مصلحة الآخر، مما يتوجب إيجاد طرفًا يقف فوق الجميع ويحتكم الجميع إليه، هذا "الفوق" الذي يستطيع أن يفرض نفسه على المتخاصمين كي لا يقضي أحدهم على الآخر أو يلتهمه بحسب تعبيره، هذا الفوق الذي ينفصل تدريجيًا عن المجتمع ويسمى دولة.

تحتاج الدولة وبقدر احتياجها لاحتكار وسائل القهر إلى قبول اجتماعي، أو شرعية يمنحها لها المجتمع الذي تحكمه وتقف هي فيما بعد فوقه

إذن نفترض من هذا الإنتاج إن لهذا الجهاز- الدولة ـ وظائف لا تكّمن فقط في ان تتسيّد المجتمع وتقف فوقه، بل أنها وبمرور الوقت سترسمه من جديد، ستعيد ترتيب أوراقه ومطالبه ومصالحه، وستناط بها مجموعة من الوظائف الأخرى والتي يفترض المجتمع أن تحققها له، وارتباطًا بسبب ظهورها الأول وسبب إيجادها من أنها سوف لن تسمح لأحد الأطراف المتخاصمين بالقضاء على الآخر وجب امتلاكها للعنف ووسائله، سيطرتها على أدوات القهر والقوة، لكن هناك ضرورة إلى التفريق بين امتلاك وسائل العنف والقهر وبين استخدامها من دون رادع أو ضابط. فامتلاكها وحدها لهذه الوسائل هو ما يدفع المجتمع إلى الانصياع لسلطتها وقراراتها حتى دون أن تستخدمه أحيانًا، فالدولة لا تستطيع أن تواصل عملها ولا وجودها كدولة باستخدام العنف فقط، بل أنها تحتاج وبقدر احتياجها لاحتكار وسائل القهر إلى قبول اجتماعي، أو شرعية يمنحها لها المجتمع الذي تحكمه وتقف هي فيما بعد فوقه، هذه الشرعية أو هذا القبول هو السبب الرئيس لوجودها وهو ما يمنح قهرها وعنفها الشرعية بعد أن يؤمن بأن وجودها ضرورة لوجوده كمجتمع. وإن غيابها يهدد ذلك الوجود، وهذه العلاقة التي تربط الدولة بالمجتمع هي علاقة جد ضرورية ومهم توفرها.

اقرأ/ي أيضًا: مرايا الطغيان المقعّرة

ومن وظائفها أيضًا إثبات تمثيلها لذلك المجتمع أو الجماعة الوطنية حسب بعض التعريفات، وهذا يأتي عبر إنتاج الدولة لسياقات من شأنها أن تعمل على تجانس ذلك المجتمع واندماجه بروابط تربطه مع الدولة حيث يتخلى طواعيةً عن روابطه القديمة القائمة على أساس القبيلة أو الدين، المذهب والطائفة والقومية، التخلي هنا بمعنى الاندماج مع الآخر سببه الانتماء لتلك الدولة والجماعة الوطنية لا بمعنى التنازل أو ترك ذلك الانتماء، أي اعتبار تلك الانتماءات شيئًا شخصيًا لا تأثير لها على علاقته بالدولة أو بالآخر الذي يشاركه الرقعة الجغرافية تلك، وهذه تمثل وظيفة مهمة من وظائف الدولة التي لا تقل أهمية عن وظيفتها السابقة في احتكار العنف، وظيفة أن تحوّل جميع من يعيشون في تلك الرقعة الجغرافية الى مواطنين بعيدًا عن أي انتماء آخر، فمتى ما اعتبر ذلك المجتمع أن الدولة ببنيتها وخطابها، بقراراتها ورؤيتها لا تمثله فانه سيمتنع عن تنفيذ أوامر الدولة أو أنها ستفتقد احترام المواطن لها باعتبارها ناظمًا لحياته.

حديثاً وحسب الباحث الراحل فالح عبد الجبار فإن من وظائف الدولة تقديم الخدمات، وهي إضافة حديثة لوظائف الدولة حسب عبد الجبار، وهذه الخدمات تشمل التعليم والأمن والصحة. فلا يمكن لدولة ما أن تقوم أو تحقق ذاتها كدولة دون أن توفر لمواطنيها كل تلك الخدمات، على اعتبار أنها المتلقي الوحيد لكل الإيرادات والمداخيل سواء كانت تلك الإيرادات قادمة من الضرائب أو الريوع أو أي شيء آخر.

على بساطة ما تقدم، وحيث أن المكان لا يسمح بالإطالة، فأنه من الممكن أن نعتبر تلك الوظائف التي ذكرناها هي الوظائف الرئيسية التي يجب أن تضطلع بها أي دولة لتثبت وجودها، وعكس ذلك، فأنها تنفيه، تنفي وجودها الحقيقي، أو يصبح وجودها شكليًا وهو بنظر مواطنيها وجودًا غير مرغوب به أو لا يعني له شيئًا، فما فائدة دولة لا تحتكر وسائل العنف بل تتركه بيد طبقات وجماعات وفئات تتقاتل فيما بينها في أي وقت، بل ومن الممكن أن تقاتل الدولة نفسها في لحظة تأزم لعلاقتهما في لحظة معينة؟ ممكن أن تنفي أو تلغي الدولة في مساحة معينة ووقت معين، أو أنها تلغي الآخر المختلف معها، وبهذا فقدت سببًا رئيسيًا من أسباب وجودها أو إقامتها.

وما الداعي لوجودها في الوقت الذي يجد كل مواطن أو مجموعة مواطنين أن في هويتهم الفرعية ضمانًا لوجودهم وتعبيرًا عن مصالحهم، سواء كانت تلك الهوية قائمة على أساس ديني أو أثني أو مذهبي، ما الغرض منها وهي تفشل في وظيفة مهمة من وظائفها حين لا تستطيع أن تخلق من التعدد الذي يمتاز به ذلك المجتمع هويةً يتبناها الجميع ويتحوّل بفضلها كل الأفراد والجماعات إلى مواطنين لا يتميز أحدهم عن الآخر بفضل هويته الفرعية.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

معضلة النظام العراقي وأزماته.. انتهت حلول الأرض؟

سبعة قرون من الاستبداد