11-يونيو-2020

قيم العشيرة ودستورها هي القانون النافذ منذ القرن الثالث عشر (فيسبوك)

لم يكن العراقيون شعبًا واحدًا أو جماعة سياسية واحدة. وهذا لا يعني الإشارة فقط إلى وجود الأقليات العرقية والدينية في العراق.. فالعرب أنفسهم الذين يؤلفون أكثرية سكّان العراق كانوا يتشكّلون، إلى حدٍ بعيد، من جملة من المجتمعات والمختلفة في ما بينها والمنغلقة على الذات، بالرغم من تمتّعهم بسمات مشتركة. حنّا بطاطو.

"أسلم للفرد ألف مرّة أن يعتمد على العشيرة من أن يعتمد على الحكومة، ففي حين أن هذه الأخيرة تؤجل أو تتجاهل الاخضاع، نجد أن العشيرة، ومهما كانت ضعيفة، ما أن تعلم بأن ظلمًا قد وقع على أحد أعضائها، حنى تعد نفسها للأخذ بثأره". أحد نواب بغداد في البرلمان العثماني- 1910.

منذ سقوط الدولة العباسية وحتى هذه اللحظة المظلمة من تاريخ العراق، لم يكن لهذا البلد أن يتلجأ إلى ظل الدولة الحديثة، باستثناء لحظات تاريخية مضطربة، ولم تكن ثمّة هوية واضحة المعالم كالهوية العشائرية كمتحكم رئيسيٍّ في مجمل العلاقات الاجتماعية في العراق. إذ كلما نهض هذا البلد من كبوته ووجّه خطاه لبناء المؤسسات العصرية يصطدم بالهويات الفرعية كقوة مهيمنة وممانعة: إنّها القوّة "اللقاحية" التي ترفض أن يتأمّر عليها ملك أو أمير. ومؤكد أن مشاكل العراق المزمنة لم تنفرد فيها قوّة العشيرة فحسب، لكنّ الناظر لوضع العراق اليوم سيفهم طبيعة المعوّقات في بلدٍ يتمتع بأغلبية عشائرية آخر ما تفكّر به هو بناء المؤسسات العصرية.

بعد تفتيت سلطة العشائر على يد العثمانيين جاء البريطانيون ليعززوا دور العشائر مرّة أخرى لتغدو العشيرة سلطة مهيمنة

 وبحسب المعلومات التاريخية، الواردة في الجزء الأول من كتاب "العراق" للباحث الفذ حنا بطاطو، والتي سأعتمد عليها في هذه المقالة، لم تترك الحروب والاحتلالات والسلب والنهب والتدمير، التي تعاقبت على العراق منذ القرن الثالث عشر، قرون سقوط الامبراطورية العباسية، حتى القرن الثامن عشر، أي معالم قوية ومؤثرة للحياة الحضرية في العراق، فضلًا عن التدمير الكليَ الذي طال سدود الري القديمة، "كانت هناك حقيقة أكدت نفسها تكرارًا، ألا وهي الضعف الشديد الذي أصاب المدن". فثمّة علاقة طردية واضحة؛ وهي قوّة البيئات العشائرية وتنامي سلطتها عند ضعف البيئات الحرية. و بحسب الجدول البياني الذي أرفقه حنا بطاطو، في الجزء الأول من كتابه، فلم يسلم العراق منذ 1621 حتى 1895 من الحروب والحصارات والكوارث الطبيعية والمجاعات والمذابح والفيضانات. وكأنما ثمّة إجماع من الطبيعة والبشر على انهيار هذا البلد.

اقرأ/ي أيضًا: لعبة الانقسامات

ما عدا سلطة العشائر، في ذلك الحين، لا شيء يوحي بالعصر الحديث في هذا البلد المنكوب؛ فلا مواصلات حديثة برية وبحرية وجوية؛ لا توجد طرق حديثة تربط مناطق العراق ولا عربات نقل متطورة ولا طائرات نقل مدنية. لا يوجد من هذا كلّه سوى الحيوانات والمراكب البحرية القديمة. وكان المسافر يستغرق أسبوعًا كاملًا بين بغداد والبصرة.

 لم تكن ثمّة صلة واضحة بين المدن الحضرية والبيئات العشائرية، ولا رابطة ثقافية موحدة؛ فهي متوزعة بين التقاليد العثمانية والفارسية والعادات والقيم العشائرية، وكانت هذه الأخيرة تشكّل العصيان الأكبر لقوانين الحكومة. بل حتى العشائر لم تسلم من هذا الانقسامات التي تحولت إلى أحلاف متعددة وأفخاذ متصارعة. ولم يقتصر هذا الانقسام على البيئات العشائرية فحسب، بل كانت للمدن الحضرية حصّة كبيرة من خلال التوزيع السكاني الذي كان يراعي التراتبيات الطبقية والهويات المذهبية والدينية، وانقسمت المناطق على هذا الأساس؛ "محلّة" للسنة، وأخرى للشيعة، وثالثة لليهود، وغيرها للمسيح، وأخرى للضباط وهكذا.

 لم يسمع عموم العراقيين بأجهزة الإدارة والتعليم والقضاء ذات الطابع الحديث. باستثناء مناهج التعليم الكلاسيكية في الحوزة النجفية ومدارس النخب العثمانية التي خرّجت جيلًا من العسكر والإداريين. بكلمة واحدة: لا وجود لمؤسسات عصرية يجعها مفهوم الدولة الحديثة أو شعب متجانس تجمعه هوية وطنية موحدة. وقد أنتج هذا الوضع انحطاطًا اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا وبلدًا تمزّقه الانقسامات.

وعلى الرغم من ظهور قوة اجتماعية جديدة في العراق، غير أن الولاءات القديمة ظلت صلبة ومتماسكة. لا شيء يمكنه تفتيت سلطة العشيرة وسطوتها. إذ بعد تفتيت سلطة العشائر على يد العثمانيين جاء البريطانيون ليعززوا دور العشائر مرّة أخرى لتغدو العشيرة سلطة مهيمنة؛ فالشيوخ تحولوا إلى إقطاعيين كبار وعِماد الدولة العراقية الحديثة. وبهذا ضمن البريطانيون نفوذهم السياسي وسيطرتهم على الملك فيصل الأول. لقد كابد هذا الأخير معاناة كبيرة لكي يصهر الأمة الجديدة التي كانت متبعثرة ومتناحرة ولا تجمعها هوية وطنية واضحة المعالم. وكالعادة كانت قوة العشيرة تتفوق بالرجال والسلاح على سلطة الدولة. حتى أن شيوخ العشائر لم تكن شرعية الملك فيصل الأول ذات أهمية بالنسبة لهم لولا إمضاء البريطانيين عليها.

البنية العشائرية ظلت متحركة ونافذة باستمرار طوال تاريخ الدولة العراقية الحديثة، لأنّها كانت تتخذ السند والملجأ من سلطتين: السلطة السياسة والدينية

ربما يُفهم من سياسية البريطانيين على أنها سياسة طويلة الأمد المراد منها توطين العشائر وإدماجهم بالتدريج في الدولة الحديثة، إذ من الصعب تجاهل مثل هذه القوة الاجتماعية الهائلة أو الاصطدام معها. ومن جهة اخرى يمكن أن يكونوا القوة الضاربة للمحتل الذي كان وجوده هشًّا وقلقًا في العراق. فنظر البريطانيون من جهتين: الاولى أن العشائر قوة اجتماعية هائلة لا يمكن تجاهلها، الثانية أنهم بمثابة قوة محلية موالية للبريطانيين. وبهذا استطاعوا من كسب العشائر وإمدادهم بمزيد من السلطة والثروة.

اقرأ/ي أيضًا: لماذا لا نتغيّر؟

حتى قانون الإصلاح الزراعي لم تكن الغاية منه القضاء على سلطة العشيرة كهوية فرعية تهدد الهوية الوطنية الكبرى، وإنما كانت غايه إعادة النظر في نمط الإنتاج السائد وتوزيع الأراضي على الفلاحين بدلًا من الاستحواذ الكامل على مساحات شاسعة بأيد القلّة من الإقطاعيين. صحيح أن تغيير نمط الإنتاج ينعكس بالتدريج على البنية السياسية، غير أن ظروف الفلاحين المزرية (وبالخصوص سكنة الصرايف) لم تتغير أحوالهم الحياتية، إذ لم تتوفر لهم تنشئة اجتماعية ترفع من شأنهم. تكاثروا في مدينة "الثورة" وكانت السنن العشائرية دستورهم المفضّل! فالفلاحون السابقون تحولوا ألآن إلى عمّال خدمة وتم إدماج بعضهم في سلك الشرطة، ولا زالت هذه المدينة حتى الآن تتحكم بها قيم العشيرة وإن كان الشكل التعبيري الأبرز هو الولاءات الدينية، غير أن قيم العشيرة هي الرأس المفكر.

المهم في هذا كله، إن البنية العشائرية ظلت متحركة ونافذة باستمرار طوال تاريخ الدولة العراقية الحديثة، لأنّها كانت تتخذ السند والملجأ من سلطتين: السلطة السياسة والدينية؛ كلا السلطتين اتفقتا، بشكل غير مباشر، على دعم العشيرة وتغلغلها كقوة اجتماعية لا يمكن تجاوزها، ويبدو أن السلطتين اجمعتا على أن الهويات الفرعية وجود أصيل أمّا الهوية الوطنية فهي سلطة غريبة وطارئة! فبهذا المعنى تغدو حتى مدننا الحضرية شكل بلا مضمون؛ إذ لا زالت العلاقات العشائرية تحظى بالأولوية الكبرى طبقًا للتراتبية الاجتماعية في المجتمع العراقي. إن المعارك العشائرية التي تحدث بين الحين والآخر تشكّل علامة بارزة على تواطؤ السلطتين وصمتهما المطبق على هذه الفضائع؛ فالسياسي ينتمي إلى العشيرة قبل انتماءه لدولة القانون، ورجل الدين حتى وإن أفتى بحرمة تلك الأفعال فمقلدوه سينحازون إلى العشيرة، ذلك أن قيم العشيرة ودستورها هي القانون النافذ منذ القرن الثالث عشر وحتى هذه اللحظة.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الجماعات وخصومها: العلاج بالتخوين!

نضال التغيير ضد حماة "الأعراف المقدسة"