في مجتمعاتنا التي تعرضت لرضوض عنيفة ومدمّرة تتسع فيها مساحات واسعة للانقسام المجتمعي. يصعب عليك العثور على انسجام بين فئات المجتمع. وإن لم يجد الفرد ما يثير الانقسام بين هذه الفئات فسينقسم على نفسه! سيترجم هذا الانقسام على شكل تذمّر وعدمية، وفي النتيجة فقدان للمعنى، وسيسهم هذا الحال بالبحث عن مثيرات خارجية يقف بالضد منها أو يؤيد توجهاتها. مثلًا: هل النظم الديمقراطية الغربية ناجحة في إدارة شؤون بلدانها؟ أيهما حقق تجارب ناجحة، الرأسمالية أم الاشتراكية؟ هل انتخاب رئيس أسود يصب في صالح قضايانا السياسية؟ هل يلتفت اليسار العالمي لمعاناتنا السياسية والاجتماعية؟ وهكذا إلى أن تصل القائمة إلى طابور طويل من الأسئلة. وبالطبع لو توقّف الأمر على الأسئلة بما هي كذلك لهان الأمر، ذلك أن الأسئلة مهمة لتوليد وتثوير أسئلة أخرى فتدفعنا إلى استحداث إمكانيات جديدة في التفكير.
البنية التحتية للفكر والسلوك عند معظم فئات المجتمع العراقي تستمد مكوّناتها من قيم العشيرة، سواء كانوا متدينين أم لا
لكن كيف يحدث التفكير في مجتمع منقسم على نفسه ويعاني شللًا في تحديد أولوياته ويحارب بعضه بعضًا، ذلك أن تصميمه وبناءه قائم على هذه المعضلة؛ فأنت إما تحت جناح الطائفة والعشيرة وبخلافهما ستعاني من النبذ الاجتماعي بشكل وبآخر، بل لا أحد يوفّر لك الحماية اللازمة. ماذا يترتب من هذا التقسيم؟ ما يترتب عليه أنّنا رثنا منه ثقافة الانقسام على أبسط القضايا؛ فالعشيرة والطائفة تعلمني أن أقف بالضد من الآخر، لا بد لي من خندق يحميني، ينبغي علي أن أتعامل بعقيدتي بطريقة تكتيكية مع الآخر؛ أن تكون لي عقيدة صريحة وواضحة ومباشرة داخل الجماعة، أمّا خارج الجماعة لا بأس أن أخفي بعض المعالم الرئيسية لهذه العقيدة مع الآخرين.
اقرأ/ي أيضًا: بين مينيسوتا وتشرين.. توقّفات وتساؤلات
المهم في الأمر؛ إن هذه البنية الاجتماعية، والتي تستمد من قيّم العشيرة مجمل سلوكياتها، تساهم مساهمة فعّالة وجليّة على منطق الخلاف والتخندق. ولذلك أميل إلى أن البنية التحتية للفكر والسلوك عند معظم فئات المجتمع العراقي تستمد مكوّناتها من قيم العشيرة، سواء كانوا متدينين أم لا، وبالطبع أنهم يختلفون بالدرجة، أمّا الأفراد القلائل وممّن استطاعوا عبور هذه المعضلة فهم قلائل على أي حال. ولا أدعي أن محنتنا تقف عند هذه الحد؛ فالبيئة المادية والنظام السياسي والسياق الثقافي يلعبان دورًا محوريًا في صياغة ما نحن عليه. ونحن، ولله الحمد، لا البيئة المادية (الموقع الجغرافي)، ولا النظام السياسي، ولا سياقنا الثقافي المضطرب يصبون في صالحنا! هذه المقومات الثلاثة انتجت لنا مجتمعًا يعشق الانقسامات الحادّة ويبحث عنها إرضاءً لذاكرته وعاداته الموروثة.
وبكل تأكيد حينما يجد مجتمع ما كل السبل قد ضاقت عليه، وكل المنافذ أصبحت مساحات حرجة للغاية، فما عليه سوى ترحيل مشاكله والهروب منها محاولةً منه إيجاد العزاء المقبول لكل انكساراته ورضوضه النفسية لتضميد جراحاته النرجسية النازفة. لقد وجد بعض العراقيين الحل، الانقسام إلى فريقين: فريق يسبح بحمد الغرب ويجعل منه خير مطلق، وفريق يكفر بالغرب ويجعل منه شر مطلق. ولم يكتفِ الفريقان بهذا الاختلاف بما هو كذلك بل عبروا إلى الضفّة الأخرى ليجعلوا من هذه الاختلافات سراطًا مستقيمًا نحو الانقسام! لكن، ومن حسن الحظ، إن معظم هذه الانقسامات هي انقسامات رقمية! وهذا دليل آخر للهروب من الواقع عبر البحث عن قضايا لا تغني ولا تسمن من جوع.
لم ولن يكون المواطن الغربي مهتمًا بقضايانا، لا يمينهم ولا يسارهم، وآخر هموم هؤلاء الاهتمام بمصيرنا ومعاناتنا. ولا يتعلّق الأمر بشحّة المعلومات. غير أن بعض العراقيين، وبدافع من الاستبسال، قرروا أن يحملوا هوم العالم أجمع فبدأوا منذ فترة يفعّلوا خاصية الجدل الحاد والخلاف في بعض الأحيان حول شخصية ترامب، أو حول التظاهرات الأخيرة في الولايات المتحدة. وكان اختلافهم، والحق يقال، يصب في أعقد القضايا وأصعبها: هل المواطنون السود يستحقون العيش في الولايات المتحدة أم لا؟ هل يعتبر العرق الأسود عرق متدني أم عرق أصيل؟ هل الجينات الوراثية تقف مع أم ضد هذه الأسئلة. ومن حسن الحظ، مرّة أخرى، تُطرح هذه القضايا في العالم الافتراضي. ومن سوء الحظ، أنه لا الأنظمة الغربية ولا شعوبها سيطلقون الألعاب النارية والبالونات، ولا ستهتمّ بنا وسائل الإعلام سواء كنّا من فريق الخير المطلق أم فريق الشيطنة المطلقة. بل أغلب الظن سيقول عنّا: إنّهم مجتمع معتاد على الانقسام، فإن لم يجد له مساحة في الواقع ينقسم عليها، سيهرب إلى العوالم الرقمية ليعزّز انقساماته العزيزة على قلبه.
اقرأ/ي أيضًا:
تفاعل عراقي مع أحداث مينيابوليس الأمريكية.. انتفاضة تشرين في المقارنة