29-مايو-2020

الاحتجاج العراقي كان سلميًا بالفعل (Getty)

خلال الـ24 ساعة الأخيرة انشغل مرتادو وسائل التواصل الاجتماعي بالاحتجاجات في أمريكا عقب مقتل متهم أسود على يد الشرطة بشكل وحشي. الكل يهلل لعظمة الاحتجاج وردة الفعل الهائلة بعد مقتل رجل واحد فقط، وكيف أن الإنسان الأمريكي عزيز على قومه عكس ما في العراق، لكن أحدًا لم يسأل عن السبب، لماذا حدث عندهم ولم يحدث عندنا؟ والجواب على ذلك مقرون بثقافة شفاهية تم تداولها من قبل المناصرين غير المشاركين، بنية حسنة أو سيئة، على شكل أنساق من النقد الذاتي غالبًا ما كانت تنحدر إلى الدونية، وتمثلت بعدة مصطلحات، أكثرها فتكًا للاحتجاج كانت مفردتا "سلمية" و"فتنة".

كان خطاب السلمية في تظاهرات العراق ناشزًا وغير مفهوم، لا لأن الاحتجاج المسلح حق شرعي في تلك اللحظة، بل لأن الاحتجاج كان سلميًا بالفعل

في مطلع تشرين الأول/أكتوبر، كنت والكثير مثلي غير متحمسين للاشتراك بالحركة الاحتجاجية لأن أهدافها ومطالبها حددت بالخدمات وفرص العمل وبعض التفاصيل التي لا تمس عمق الأزمة الوطنية في العراق، غير خارطة التعاطف تغيرت مع سقوط أول شهيد في الاحتجاج.

اقرأ/ي أيضًا: انتفاضة تشرين.. صوت المستقبل

مرت 8 أيام دموية وتوقفت الاحتجاجات مؤقتًا، لنرى عامة الشعب سيما الذين تجاوزا الـ35 من العمر، يراهنون على عدم استئناف الانتفاضة (ما زلت أظنها ثورة) رغم كونهم من المعادين للسلطة، كانوا طاقة سلبية هائلة بوجه انتفاضة الشارع، ولم يؤثروا واستؤنفت الاحتجاجات بزخم أكبر في الـ25 من تشرين الأول/أكتوبر.

كان عدّاد الشهداء قد وصل إلى نحو 110 وبضعة آلاف من المصابين، والآن لنتوقف قليلًا وننظر إلى الفرق بين ردي الفعل العراقي والأمريكي! ومع الاستسلام لقناعة مفادها أن هذا الاحتجاج قد بدأ الآن ولا يمكن الحديث عن توقفه خلال يومين أو ثلاثة، تصاعد خطاب "السلمية" على وسائل التواصل الاجتماعي، وفي ساحات الاحتجاج، تزامنًا مع حرق مقار لفصائل مسلحة شاركت بقتل الـ110 المذكورين أعلاه، وكان العداد مستمرًا بالتصاعد.

كان خطاب السلمية ناشزًا وغير مفهوم، لا لأن الاحتجاج المسلح حق شرعي في تلك اللحظة، بل لأن الاحتجاج كان سلميًا بالفعل، وكان السلميون يهتفون أنهم سلميون ثم يكتب المتابعون رسائلهم وتوجيهاتهم للسلميين أن يكونوا سلميين. وهنا حاول عزيزي القارئ تخيل هذا المشهد، أن تكون ماشيًا على الرصيف، تطلب من الآخرين أن لا يمشوا على الشارع، فيأتي لك رجل ويقول، يا فلان، أمشِ على الرصيف، فتخبره أنك تمشي على الرصيف، فيقول لك أعرف، لكن لا تمشِ على الشارع، هل من منطق في ذلك؟

تحول هتاف السلمية في ساحات الاحتجاج إلى صوت لا يناسب الفعل، فصدوره من قبل محتج سلمي كان دليل خوف، لكن المحتج لم يكن خائفًا بل واجه آلات الموت المتعددة للسلطة، واستمر بالهتاف "سلمية.. سلمية"، حتى خرج غاضب من وسط الحشود وقذف قوات الأمن بحجر، فقال المنتقدون، الذين على حين غرة ولد في رأس كل واحد منهم تروتسكي صغير، هذا خطأ ألم نقل حافظوا على سلميتكم؟ ولم تخبرهم فئة أخرى من العامة أن الحجر ومصائد المطاط وحتى المولوتوف هي أدوات سلمية جدًا! بل كما يحدث في أي "تريند" على وسائل التواصل الاجتماعين يعمل الجميع بمبدأ "monkey see monkey do" وردد الجميع هذا الهراء حتى أصبح للإعلام المعادي للاحتجاج حجر أساس للإدانة.

وفي عودة سريعة إلى الولايات المتحدة، رفع المحتجون يافطة كتب فيها بالإنجليزية "لا عدالة.. لا سلم" وهناك خطاب واضح وصريح في اللا سلم، ذكرتني هذه اليافطة بأخرى رُفعت في العراق "ماكو وطن.. ماكو دوام" قيل عنها إن المراد منها تخريب البلاد وتدمير التعليم، فيما وقف الموظفون مع قوات الشغب ضد المحتجين حين قطعت الشوارع، كانت مرتباتهم أهم من دماء أكثر من 600 شهيد حينها، وهنا أود القول دون تردد أنا لست مع إضراب الموظفين لقطع رواتبهم، لأن هم الوطن كان أجدر بالإضراب، وقد فوتوا هؤلاء على أنفسهم الفرصة.

يتداول الآن المدونون صور عمليات نهب وسلب هائلة في مناطق الاحتجاج الأميركية، عمليات لم تشهدها الانتفاضة (الثورة) العراقية، لكن العراقيين اتهموا العراقيين رغم ذلك أنهم لصوص وقطاع طرق لأن متجرين أو ثلاثة سرقوا أو تعرضوا للاحتراق خلال عمليات اشتباك مع قوات الشغب المجرمة المسؤولة عن قتل المئات وتعويق الآلاف من المحتجين، وغدًا سنسمع رجلا في الخمسين من عمره يقول عبارة يرددها منذ سنين طويلة "العراقيين جبناء ما يطالبون بحقهم" وهو الذي شتم المحتجين وخونهم لأنهم أخروا دراسة ابنهم في الصف الرابع الابتدائي لثلاثة شهور أو أربعة.

تحول هتاف السلمية في ساحات الاحتجاج العراقية إلى صوت لا يناسب الفعل، فصدوره من قبل محتج سلمي كان دليل خوف، لكن المحتج لم يكن خائفًا

أما نحن الذين شاركنا في هذا الاحتجاج، إن استؤنف احتجاجنا ثانية بعد أزمة كورونا أو خلالها في قادم الأيام، فعلينا أن نضع منطق السياسة على جنب في الاحتجاج ونفكر بمنطق الثورة والغضب، فطرح مسارات منطقية وإيجاد الحلول المستقبلية ليست وظيفتنا كما توهمنا، وظيفتنا أن نقلب النظام ونقتلع جذوره، أما النفق القادم بعد ذلك، سواء كان مضيئًا أو مظلمًا، فهو وظيفة من يتصدى بعد سقوط النظام إلى العمل السياسي، وظيفة قادة الأجهزة الأمنية (وإن كانوا مجرمين أو فاسدين فلا خيار آخر لديهم حينها) بحفظ الأمن وتسيير الحياة إلى وضع أسس نظام ديمقراطي جديد سنتدخل ونعترض على كل تفصيلة فيه لأننا سنكون في الشارع حينها، قوة أولى وأعلى تضع الشروط لمن يطبق.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

رسالة إلى شاب عراقي

لعبة صراع الخارج وبيادق الداخل.. شهادة براءة تشرين