20-مايو-2020

ينبغي أن لا نستهين بحدث انتفاضة تشرين (Getty)

تقدم الجماعة بإيقاع العقوبة على من تسوّل له نفسه أن يتحدّى طرائق الحياة التقليدية. أنتوني غدنز-علم الاجتماع.

معلوم أنّ الثقافة المهيمنة لا تسمح ببروز قيم ومعايير جديدة تهدد منظومة قيمها السائدة. وستستخدم كل السبل، كما ذكرنا في مناسبات عديدة، لشيطنة ومقاومة التغيير. فلا يجوز لأحد، في عرف الجماعات، أن يتصرف بما يحلو له لإدخال طرائق جديدة تجري بالضد من طرائق الحياة التقليدية. يقول عالم الاجتماع أنتوني غدنز في كتابه الشهير (علم الاجتماع) إن القيم تضفي معنىً محددًا وتعطي مؤشرات إرشادية لتوجيه تفاعل البشر مع العالم الاجتماعي. أمّا المعايير فهي قواعد السلوك التي تعكس أو تجسّد القيم في ثقافة ما. فالقيم والمعايير، في المجتمعات التقليدية خصوصًا، محروسة من قبل الثقافة المهيمنة، والتلاعب بها يعني التلاعب بالذاكرة الثقافية للمجتمع.

لا تتغير المجتمعات في فترات وجيزة بل تحتاج إلى عدة عقود، مع وجود دولة مؤسسات عصرية

 واعتمادًا على بعض ما جاء في كتاب غدنز، فإن الثقافة المضادة التي تعارض القيم والمعايير السائدة تدفع باتجاه ظهور آراء واتجاهات قد تغدو، بمرور الزمن، بدائل تعوّض عن آليات الأكراه التي تستخدمها الثقافة المهيمنة. لذلك أن الحركات الاجتماعية ذات المواقف وأساليب الحياة المتشابهة تمثّل قوة فاعلة ومؤثرة تدفع باتجاه التغيير. تشكّل هذه الحركات فسحة مهمة للناس للتعبير عن آرائهم وتحاول أن تخلق مناخًا للحرية، لتدخل هذه الأخيرة في عداد المرغوب وسط بيئة ثقافية تعتبر الحرية تهديدًا لمعايير السلوك في مجتمع لا يدرج الحرية ضمن قاموسه القيميّ. وبدون أدنى شك، لا تتغير المجتمعات في فترات وجيزة بل تحتاج إلى عدة عقود، مع وجود دولة مؤسسات عصرية، لكي يتقبّل المجتمع القيم الجديدة.

اقرأ/ي أيضًا: رسالة إلى شاب عراقي

يذكر غدنز، في بدايات عام 2000 نشرت أحدى اللجان الحكومية المفوضة في اليابان تقريرًا أوضحت فيه المعالم الرئيسية للأهداف التي ينبغي على اليابان أن تسعى لتحقيقها في القرن الواحد والعشرين. وعلى أثر الركود الاقتصادي الذي مر به البلد وارتفاع معدلات البطالة والجريمة تشكلت لجنة بطلب من رئيس الوزراء لتحديد المسار الذي يجب أن تسلكه البلاد في العقود القادمة. كانت النتائج التي خلصت إليها اللجنة، يقول غيدنز، مدعاة لاستغراب الكثيرين: إذ دعت المواطنين اليابانيين إلى أن يتساهلوا في بعض القيم الجوهرية التي يؤمنون بها، إذا ما أرادوا عبور المشكلات الاجتماعية التي يمر بها البلد. ودعَت اللجنة،  إلى التخفيف من المغالات في تحقيق التجانس والتماثل التام في المجتمع. وأشارت اللجنة، إلى أن جميع الأطفال يرتدون زيًّا كٌحليًا موحدًا يلغي صفة التمايز بينهم بوصفهم أفرادًا، بينما يتأخر العاملون في المصانع والمكاتب حتى لو لم يكن لديهم ما يعملونه، لأنه ثمّة قاعدة غير مكتوبة، يؤكد غيدنز، تنهي عن مغادرة المكاتب باكرًا. واختتمت اللجنة دراستها بالقول إن "هذه القيم تحول بين اليابانيين وبين اعتناق الأفكار الداعية إلى تمكين الفرد باعتبار ذلك ضرورة جوهرية للسنوات القادمة".

وبالطبع أن العراق ليس اليابان، فلصلابة القيم والمعايير التي تميّز المجتمعات التقليدية، مثل المجتمع العراقي، الذي يفتقر إلى المؤسسات العصرية، فينبغي أن تترافق مع هذه الثقافة المضادة وسائل أكثر عملية، ونماذج تتسم بالمرونة وتنسجم مع الرغبات البشرية؛ مثل التجارة، والصناعة، والتكنولوجيا المتطورة، وبعض أنماط الاستهلاك. فهذه نماذج تساهم في تخفيف حدّة المعايير وإضافة سلوكيات جديدة لمنظومة القيم بشكل بطيء ومتدرّج. لقد تسرّبت مواقع التواصل الاجتماعي في كل بيت عراقي ولم يعد من السهولة إيقافه أو الحد منه. فهذا مثال بسيط عمّا أقصده بالنماذج المرنة.

 بعد التغيير اندفع العراقيون بقوّة لاكتشاف أنماط الحياة الأخرى، التي كانت حكرًا على الدكتاتور ومقربيه. فازداد حجم السيّاح العراقيين للبحث عن الاستجمام والمتعة وزيادة مدخولاتهم المالية عبر التجارة. أكثر من ذلك، ظهرت سلسلة جديدة من مطاعم الوجبات السريعة وخدمات التوصيل، وانتشار المراكز التجارية، وازدياد حجم البضائع والسلع المختلفة، وتنوّع أشكال الواجهات التجارية والديكورات، وبروز نمط اجتماعي جديد لم يكن يألفه العراقيون، فقد ظهر مع انتشار المطاعم والمراكز التجارية نمط الإعلانات وطرق البيع المتطورة وبروز الجيل الجديد كفاعل اجتماعي مهم لتعلّم هذه الطرق الجديدة؛ كالمرونة العالية والتواضع والابتسام في وجه الزبائن.

هذا النمط يعمل بالتوازي مع بروز الحركة الاجتماعية؛ فالمراقب لأحداث انتفاضة تشرين سيخرج بنتيجة مفادها، إن بعض روّاد هذه الانتفاضة هم من جيل مواقع التواصل الاجتماعي، ومطاعم الوجبات السريعة، وموظفي خدمة التوصيل، فضلًا عن باقي الفئات الاجتماعية الأخرى، كالفنانين والمصورين، وجدران الأنفاق شاهدة على ذلك. وعلينا أن لا نبالغ، إذ تبقى هذه الفئات هي الأقل مقارنة بجيوش العاطلين عن العمل. لكن بكل تأكيد هم ينتمون إلى ذات القيم الاجتماعية الجديدة؛ إذ نشاهد نمط حياتهم وعلاقاتهم الاجتماعية والسياسية متقاربة إلى حد كبير، كالأزياء وتسريحات الشعر والاهتمامات الأدبية وهامش الحرية والتمرّد على أسس الثقافة المهيمنة، وعلاقاتهم بالجنس الآخر، مقارنة بالأجيال السابقة.

ينبغي أن لا نستهين بحدث انتفاضة تشرين فهو سيصحح مساره المتعثّر بالتدريج ويكتسب الخبرة عن طريق الاخفاقات التي مُني بها

لذلك ينبغي أن لا نستهين بهذا الحدث العراقي الجديد. فهو سيصحح مساره المتعثّر بالتدريج ويكتسب الخبرة عن طريق الاخفاقات التي مُني بها. هذا الحدث، ربما، سيشكّل اللبنة الأولى لإدخال قيم الحرية والديمقراطية إلى المجتمع العراقي، حتى لو طال الأمر، فالشيء المؤكد هو الحقبة الجديدة التي دشنتها انتفاضة تشرين: حقبة الحرية ضد الاستبداد وإن طال بنا المقام.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

لماذا لا نتغيّر؟

القراءة والحرية