28-أبريل-2020

الحرية التي تهبها لك سلطة الكتاب لا تمنحها إيّاك سلطة الجهل (فيسبوك)

القراءة عكس التسلية.إنها عملية تركيز أخلاقي وعقلاني تقودنا إلى عوالم مجهولة. عوالم تكشف لنا بالتدريج لنتبيَّن أنّها الوطن الأكثر قدمًا وحقيقة: لقد جئنا من هنا. أوكتافيو باث

كانت تجربتي في القراءة لأول مرّة على ما أذكر يعود الفضل فيها إلى بقايا صحيفة مرمية على قارعة الطريق. وما جذبني فيها صورة شيخ كبير، طويل اللحية وكبير الأنف يجلس بوقار ومن خلفه زوجته. وكان هذا الشيخ اسمه تولستوي، فوضعت القصاصة في جيبي واحتفظت بها كما لو أنني عثرت على عملة نادرة. ومنذ ذلك الحين بدت دوافعي للقراءة تنضج بالتدريج، حيث كانت هذه اللحظة نقطة مفصلية في العثور على إمكانية جديدة لصبيٍّ لم يتجاوز الثانية عشرة. كانت مغامرة مشوبة بالبحث العشوائي على كل ما يقع تحت عيني، ومن محاسن الصدف كان جدي يمتلك مكتبة بسيطة في البيت، كنت أطلع على عناوين الكتب وأتصفحها لكني لا افهم ماذا يدور في داخلها.

الحريّة ليست هبة يمنحها الآخرون بقدر ماهي أحساس عميق يتخلل كل مسامات وعينا، وستكون القراءة هي الخطوة الأولى لاستفزاز هذا الإحساس

لم يكن مهمًّا أن أقف على كتاب غامض يتعدّى حدود فهمي وخبرتي الآخذة بالتشكّل تدريجيًا، وإنما تلك البشارة التي كانت تحمّل في طياتها عوالم جديدة: يمكنني الآن أن اكتشف عدّة سرديات تختلف وتتقاطع مع الأساطير التي نشأت عليها وغذّت مخيّلتي بمختلف الصنوف. ما علي إّلا التمرّن التدريجي على القراءة لكي تمنحني هذه العوالم المثيرة أسرارها، وأكسر أغلال الذاكرة وهيمنتها على طرق تفكيري. وكم من مرّة أخذتني الدهشة والصدمة وأنّا اكتشف حقائق لم تخطر على مسامعي، أو تختلف عمّا نشئت عليه.

اقرأ/ي أيضًاالحرية بوصفها مشكلة اجتماعية

 أتذكر أول الكتّب التّي شكّلت صدمة حقيقية لوعيي الديني هو كتاب حياة الأمام الحسن للباحث والمؤرخ الإسلامي باقر شريف القرشي، إذ لأول مرّة أقف وجهًا لوجه مع ما أحمله من منقولات شفاهية عن الكثير من القصص الدينية ومن ثمّ مقارنتها بالمدونات التاريخية، لأكتشف لاحقًا كيف يشكّل المخيال الشعبي والسرديات المتضخّمة أنماط تفكيرنا. ومنذ تلك اللحظة تغيّرت نظرتي للتاريخ، وقررت حينئذٍ أن لا يغدو عقلي "مكبًّا للنفايات" حسب تعبير جدّي، الذي نصحني وقتها بهذه النصيحة. لقد كان جدّي، هذا الشيوعي "الشيطان"، نقطة مفصلية في حياتي للغوص في ظلمات الجهل واكتشاف السرديات المزيّفة، وأن العالم أوسع بكثير ممّا ترويه جدتي.

ومنذ ذلك الحين فهمت إن الحريّة ليست هبة يمنحها الآخرون بقدر ماهي أحساس عميق يتخلل كل مسامات وعينا، وستكون القراءة هي الخطوة الأولى لاستفزاز هذا الإحساس، وتخلق فينا إمكانيات وآفاق تفكير جديدة لم تكن حاضرة لولا فعل القراءة. إنّه لمن المدهش أن تشترك مختلف العقول في عقد ندوات عدّة طوال حياتك واستنطاقهم من خلال الكتب التي تسافر من خلالها في كل أرجاء المعمورة. أنت على موعد دائمًا مع البحار والمحيطات، والغابات والبساتين، والنساء والرجال، والقراصنة واللصوص، والأبطال والجبناء، والأثرياء والفقراء، والفلاسفة والشعراء والعلماء، والملائكة والقدّيسين.. تستنشق عطر القارات ومختلف الثقافات القومية، والقصص والحكايا والسير. يتموضع الزمن بين يديك ويتصاغر كما لو أنّه لحظة، لكنّها لحظة ثمينة للغاية، بل لا تقدّر بثمنٍ على الإطلاق. ذلك أن الحرية التي تهبها لك سلطة الكتاب لا تحصل عليها ولا تمنحها إيّاك سلطة الجهل!

تبدأ معالم الحرية بالظهور من هنا: حينما يقع ناظراك على أول كتاب ثم تبدأ قصّة حب لن تنتهي، حب لا يمنح أسراره إلّا للأحرار.

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

التفكير على الطريقة الشعرية

رياح الحرية والقيم الراسخة.. هل مياهنا راكدة