21-أبريل-2020

تُمثّل انتفاضة تشرين إحدى ظواهر الانقلاب على بعض القيم (Getty)

ذكرنا في مقالة سابقة "المشكلة" التي صنعها نظام ما بعد التاسع من نيسان بإساءته للعديد من القيم البشرية الأصيلة والمستحدثة تحت مسمى "حكم الشعب" وارتكابه أفظع الانتهاكات التي شوهت الديمقراطية والحرية في أذهان الناس عبر خلطها بالأعراف، العُليا إن صحّت التسمية. وما كتبه الصديق رعد أطياف في مقالته المهمة بعنوان "الحرية بوصفها مشكلة اجتماعية" يستدعي بعض التعليقات حول الأعراف الدُنيا.

سياسيو ما بعد صدام حسين أساءوا إلى القضايا التي تتعلق بالتعددية الحزبية والحريات العامة والخاصة، وأجبروا جزءًا كبيرًا من المجتمع على الحنين للقبضة الحديدية

لا يمكننا الجزم بأن تحولات ما بعد البعث في المجتمع العراقي لم تكن بدافع الرغبة، فالرغبةُ لغويًا (من رَغَبَ) تأخذ معنى نفسي، وبتعبير آخر لا يمكننا الجزم بأن التحولات جاءت عكس "مشيئة" الشعب؛ لكنها بالتأكيد لم تنشأ من "صنيعته"، باعتبار أن المسبب الرئيس هو الاحتلال الذي أسقط النظام.

اقرأ/ي أيضًا: نضال التغيير ضد حماة "الأعراف المقدسة"

كانت بعض نتائج ذلك المتُغيّر بالفعل الخارجي وخيمة على المستوى السياسي والانتقال الديمقراطي والحرية من بعض جوانبها، وأدت بطبيعة الحال إلى صعوبات وتعثّرات كبيرة ومؤلمة في مسيرة النظام؛ لكن الممارسات ذاتها التي اختزنها المجتمع بسبب الاستبداد ثم رحّب بها ـ ومنها الدينية ـ فُهِمت كحريات، واستخدمت في بادئ الأمر كتعبير دستوري/ديمقراطي.

تدريجيًا، جيّرت النخب السياسية، الديمقراطية لصالحها عبر شطرها إلى جزئين: جزءٌ اجتماعي يتعلّق بإتاحتها للناس بعض "ممارسات الحرية" النقيضة للنظام القديم، واستثمار ذلك بترسيخ الشطر الثاني السياسي، وهو "الأعراف" المتمثلة بالمحاصصة وتقاسم المغانم على أسس طائفية بدعوى تبنيها لتقسيمات المجتمع الأهلية ومتبنياته السائدة، لكن جزءًا كبيرًا من الأعراف التي تدافع عنها الطبقة السياسية أصبح مرفوضًا من مجتمعها الأهلي، ومقرونًا بفساد الأحزاب، وهي حالةٌ مركزةٌ أكثر على مستوى "المكون الشيعي"، ولعل حديث المرجعية الدينية عن "ذهاب الحكم لآخرين" مهم في هذا الصدد.

إذن، لا تعيش الأحزاب بتناغمٍ تامٍ مع المجتمع وإن استثمرت عاداته وتقاليده أو سكتت عنها، لكن ذلك ليس خبرًا جيدًا على نحو كامل بالنسبة للديمقراطيين أمثالنا، فعلى الرغم من فرضية صناعة النخب للمفاهيم التقدّمية، لم يكتف سياسيو ما بعد صدام حسين بعدم تبنيهم لها؛ بل أساءوا إلى القضايا التي تتعلق بالتعددية الحزبية والحريات العامة والخاصة، وأجبروا جزءًا كبيرًا من المجتمع على الحنين للقبضة الحديدية. والخوف هو ارتباط قمع الحريات في ذهن الناس بالشأن السياسي، مثل إزاحة الطبقة السياسية بحركة داخلية أو خارجية، عسكرية أو شعبية. والهدف مما نقول إن نفور الأساسي للمجتمع (المُحافِظ تحديدًا) من النظام الحالي ونخبه ليس لكونه ديمقراطيًا يَحمل القيم الحرية التي تُمثّل "مشكلة" بالنسبة لقيم المجتمع، بل لفساده ببساطة. ومن جانب آخر، فأن المعترضين على قيم المجتمع المحافظ ينتقدون فشل النظام بأداء وظيفته كنظام في صناعة السلم واحتكار العنف والفصل بين المتنازعين. إن العامل المشترك على الجانبين، والذي لا يُمكن حذفه من المعادلة، هو النظام السياسي.

وبالعودة إلى مقالة الصديق رعد أطياف، هل تُمثّل مكونات البنية القيمية للمجتمع كالقوانين العشائرية مشكلة اجتماعية؟

تبنت/فرضت الأنظمة الملكية والقومية في العراق عمليات تحديث في المجتمع من الأعلى للأسفل، وبوصفها أنظمة علمانية الطابع اصطدمت بمجتمع محافظ، تغذّى من عدة إخفاقات للأنظمة لينتج أحزابًا وتيارات دينية/سياسية مُحافِظة، ويعزو بعض المفكرين فَشل تلك الأنظمة باصطدامها مع ذلك المجتمع. لسنا بصدد قياس حجم تأثير هذا العامل على فشل الأنظمة، لكنها "تغرّبت" بشكل أو بآخر عن قطّاعات كبيرة من الشعب.

وبوصف المشكلة "العائق اتجاه الهدف المنشود"، فإن النفور الحاصل بين الأنظمة التحديثية، المتمثلة بالجيش مثلًا كسوريا ومصر والعراق، وبين المجتمع الذي لم يدخل في عملية تطور طبيعية، يُمكن اعتباره "مشكلة"، ودراسة مدى تأثيره على فشل تلك الأنظمة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الأنظمة التحديثية ليست ديمقراطية أو مبنية على الحرية من جذورها؛ لكن تحولات ما بعد 2003 لم تتبناها نخبة من الأعلى، ولم تبرز كتحول صادم (ثورة مثلًا) من الأسفل، بل هي نتيجة انفتاح البلاد بعد عقود من الانغلاق على رياح العالم. وبالتالي، فأن ظواهر "التذرر" الحاصلة هنا وهناك نابعة من محركات ودوافع داخلية من الأسفل ستُمثل بالفعل مشكلة حال اصطدامها الحتمي بالبنى الاجتماعية الراسخة.

بمعنى آخر، إن قيم الحرية والديمقراطية ليست هدفًا منشودًا للنخب السياسية يتناقض مع الجماعات المحافظة والدينية في العراق، وبالتالي، لسنا أمام عملية صناعة قوى سياسية محافِظة قبالة نظام مُنفتح، أو نشوء تيارات دينية متطرفة قبالة نخب عَلمانية، فالتطرف في العراق مرّده الطائفية، والأدق، بوصفها جماعة طائفية لا مؤسسة مذهبية.

القوانين العشائرية انموذجًا

لا نعتقد أن البُنى الاجتماعية المذكورة في المقالة موضع النقاش تُمثّل سدًا منيعًا بوجه الحرية والديمقراطية بوصفها مفاهيم سياسية، كون المنحى السياسي يأخذ شكلًا آخر في العراق الحالي. وقد أشار أطياف إلى ملاحظة مهمة، وهي اعتبار النقد إهانة للذات في مجتمعنا، لكن ألا يعتبر هذا المجتمع الضرب والتنكيل والقمع إهانة؟ ألا يعتبر الفساد وانتهاك السيادة وتحكم الخارج وضياع الموارد إهانة؟ ـ بإمكان أي نظام دكتاتوري قمع البنى الراسخة بالقوة مع بقائه مغتربًا عنها، في الوقت الذي يُقنِع/يوافِق المجتمع على اعتبار الحرية والديمقراطية عادات دخيلة.

تُمثّل انتفاضة تشرين إحدى ظواهر الانقلاب على بعض القيم، فبغض النظر عن خروجها من ثوابت سياسية ومذهبية، تعرّضت للأعراف العشائرية بوصفها قيمًا سائدة

هي قيم اجتماعية تتبناها الجماعات المحافظة التي تُمثّل الأكثرية؛ لكنها تصطدم الآن برياح التغيير بفعل صيرورة اجتماعية، ودليل الصِدام هو نقاشنا الآن، وحديث الناس عنها بعد كل خبرٍ يُثير اللغط في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، ويُجبِر جهاز الدولة على الاستجابة لتلك الإثارة، فما كان لنا أن نُثير النقاش أو للدولة أن تستجيب لولا وجود "مشكلة"، والمشكلة هنا هي اصطدام تلك البُنى السائدة ببنى جديدة، والنتيجة هي أن مصدر الإثارة هو الصِدام بين القيم المتنافرة، وليس "سكوت" المجتمع عنها، فالمسكوت عنه لا صوت له ولا صدىً إلا عند الفلاسفة.

اقرأ/ي أيضًا: الحرية بوصفها مشكلة اجتماعية

كما لا يمكن تجاوز كل المنادين بحصر سلاح العشائر ورفض "النهوة" وتعنيف المرأة، كالمراجع الدينية والمثقفين ووسائل الإعلام والتيارات السياسية والمدنية، بل حتى القانون الصادر باعتبار الدكة العشائرية جُرمًا إرهابيًا هو بفعل استجابة النظام للضغوط، لكنه الى الآن لا يمتلك الجرأة للتصرف كنظام في تطبيقه.

مياهُنا ليست راكدة

إن افتراض وجود أغلبية اجتماعية تتبنى قيم حداثوية وترفض القيم السائدة في مراحل مبكرة من الانفتاح هو افتراض فحسب، فوجود عناصر حيوية مثل النخب الثقافية والسياسية والدينية الرافضة للقيم المسيئة هو "المهم"، ووجود إرادة من النظام بإصلاحها هو "المطلوب"، أما "المشكلة" فهي عدم وجود هذه الإرادة. إذن، نحن أمام حالة اجتماعية "طبيعية" يتصرف فيها المجتمع الفاقد لهيمنة الدولة بما يمتلك من أعراف، ويتكيف مع الظروف، و"مشكلة سياسية" بسبب التنافر الحاصل بين القيم الدستورية للنظام وفشله (أو تواطئه) في تطبيقها رغم مناداة المنادين.

تُمثّل انتفاضة تشرين إحدى ظواهر الانقلاب على بعض القيم، فبغض النظر عن خروجها من ثوابت سياسية ومذهبية، تعرّضت للأعراف العشائرية بوصفها قيمًا سائدة. هَتف متظاهرون "خلي عقالك للدكَات" في إشارة لتمردهم على شيوخ العشائر المهادنة للنظام الفاسد، لا في بغداد، بل في أشد المحافظات عشائريةً. ليس ذلك بالأمر اليسير. لقد اعترف أحد رجال العشائر في محافظة أخرى صراحةً وهو يخاطب الحكومة: "فقدنا السيطرة على شبابنا".

من جانب آخر، لم تَعُد العائلات الدينية في معقلها تنتج خلفًا في ذرّيتها مطابقًا للسلف بالضرورة، والشواهد كثيرة لكنها لا زالت تحت الطاولة، فخروجها إلى العلن سيُمثّل صدمةً لتعلّقه بشخصيات مرموقة. يعترف أحد الزعماء الدينيين بتفشّي ظاهرة الإلحاد داخل الحوزة الدينية، وذِكْرُ ذلك ليس دعوةً للإلحاد أو إقرانه بالتطور، لكننا نردّه إلى فعل رياح التغيير، ونقول إننا لا نعيش في مياه راكدة.

لا خلاف بكون شروط وجود المشكلة متحققة؛ لكن التركيز المأمول من وجهة نظرنا على تحديد هوية الهادف للتغيير المنشود، والمتضرر منه، والمسؤول عنه. وإذا سلّمنا بأن العائق باتجاه الهدف هو النظام فأنها مشكلة النظام، وليست مشكلة يتحملها المجتمع فحسب لا تُحل إلا بتغييره، خاصةً وأننا لسنا ازاء دولة تحديثية تُمثّل "مركزًا مستقلًا لإنتاج الحداثة" بتعبيرات برهان غليون، وتعمل على معالجة الفساد بالإصلاح، والاستبداد السياسي والاجتماعي بمزيد من الحريات، وتتيح بذلك لنا كمجتمع معالجة الاضطرابات والتناقضات في حوار وأجواء صحية.

فشل النخب القديمة في التحديث واعتزال الجديدة عن أداء دورها بالحد الأدنى أجبرنا على المرور في مرحلة تنضيج من الأسفل

إن فشل النخب القديمة في التحديث واعتزال الجديدة عن أداء دورها بالحد الأدنى أجبرنا على المرور في مرحلة تنضيج من الأسفل، قد تُرضي في نهاية المطاف، إذا ما جرت عملية "هضم" لمفاهيم الحرية، فوقية ستيورات مِل بنظرته للمجتمعات المستحقة للحرية.

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

التفكير على الطريقة الشعرية

بعد فشل التوافق وتشويه التكنوقراط.. نحو انقسام صحي