19-أبريل-2020

خطر الأنظمة الداهم يتمحور في اتساع رقعة الحرية (فيسبوك)

معلوم أن التحولات التي طرأت بعد سقوط البعث في المجتمع العراقي تركت ورائها مشكلات اجتماعية. خصوصًا أن هذا التغيير لم يكن بدافع الرغبة المتأصّلة للبناء الاجتماعي والسياسي، وإنما أقصى حالات الرجاء كانت تتمحور في القضاء على الدكتاتور، والدليل على ذلك الرجاء أن البدلاء لم يتوفروا على نموذج مقنع حتى الآن، ولا حاجة إلى سرد التفاصيل التي أضحت بمنزلة البداهات. وعلى أي حال، لا زال هذا التغيير حبرًا على ورق، وبالخصوص فيما يتعلّق بمفهومي الحرية والديمقراطية. فهذان المفهومان يُنظر لهما، من قبل طيف واسع في المجتمع العراقي، على أنهما مشكلة اجتماعية، بمعنى أنهما مفهومان ليسا مرغوبين ويهددان قيم المجتمع. بل أضحت الحرية، وبالخصوص عند الجماعات الدينية، عنصر قلق متزايد بوصفها تمنح العقل فسحة من التفكير بلا شروط مُحددة سلفًا، وهذه مشكلة!

 أضحت الحرية، وبالخصوص عند الجماعات الدينية، عنصر قلق متزايد بوصفها تمنح العقل فسحة من التفكير بلا شروط مُحددة سلفًا

يغدو تفسير بعض المشاكل "شرعيًا"، ويحظى بصفة القبول لأن المجتمع يفسرها انطلاقًا من قيمه السائدة؛ الخمر مشكلة اجتماعية، السفور مشكلة اجتماعية، لأنهما يعارضان قيمنا الاجتماعية. استنادًا إلى دراسة قام بها مجموعة من الباحثين العرب، حملت عنوان "المشكلات الاجتماعية المعاصرة"، يورد الباحثون  تعريفًا لعالم الاجتماع البريطاني غوردون مارشال يقول فيه إن "المشكلة الاجتماعية هي انحراف في سلوك الأفراد عن المعايير التي تعارف عليها المجتمع للسلوك المرغوب فيه". واطلعت على بعض المقالات والبحوث بخصوص هذا الشأن، فهي تقترب من تعريف مارشال ومنها تعريف عالم الاجتماع العراقي جواد علي الطاهر والذي يعرّف فيه المشكلة الاجتماعية "على أنها انحراف واقعي أو خيالي عن القاعدة الاجتماعية التي يعتز بها عدد كبير من الناس". ومثلما نرى، إن المشكلة الاجتماعية تحدث نتيجة بروز قيم جديدة تجري بالضد من القيم السائدة، في حين لا يمكن عدّها مشكلة طالما يبدي معها المجتمع تصالحًا وقبولًا. فلماذا لا تُعَدّ قضايا مثل العنف الأسري، واضطهاد المرأة، والزواج المبكّر، والقوانين العشائرية، مشكلة اجتماعية رغم قسوتها ومعارضتها للقوانين المدنية؟ الجواب ببساطة شديدة: إنّها أحد مكونات البنية القيمية للمجتمع العراقي، ما يعني أنّها قيم مرغوبة، أو على أقل تقدير، مسكوت عنها ولا تحظى باهتمام المجتمع.

اقرأ/ي أيضًا: التفكير على الطريقة الشعرية

على عكس الحرية والديمقراطية، فإنهما خارج منظومة القيم الاجتماعية العراقية، فلابد من وضعهما في خانة المشاكل الاجتماعية. وبالخصوص مشكلة الحرية، ذلك أن مشكلة الديمقراطية لا تشكّل خطرًا يهدد قيم المجتمع، لأنّها تم تحويرها في معمل الطائفية؛ فالديمقراطية العراقية لا تخضع للقيم السياسية المتعارفة، كالارتهان للدستور مثلًا، وإنما جرى تغليب "الأعراف" الطائفية والحزبية حسب  تعبير الزميل زيا وليد في مقالته (نضال التغيير ضد حماة "الأعراف" المقدسة). فلا خوف من الديمقراطية ولا هم يحزنون، يكفي أن "الكتلة الأكبر"، وهي في نهاية المطاف ترجمة أمينة لـ"الطائفة الأكبر"! وهي من تحدد أسس الديمقراطية. وهذه الصيغة المريحة تداعب وجدان المجتمع العراقي وتسهّل عليه المشقّة لكي لا يضع الديمقراطية في خانة ممنوعاته، أي خانة مشكلاته. تبقى الحرية هي المشكلة الحقيقية.

 قد يُفهم هذا الكلام على أن الديمقراطية منتج ثقافي، وبما أن الأمر كذلك، فالديمقراطية لا تصلح للعراقيين! والحق أن هذا الادعاء لا تعززه الشواهد التاريخية؛ فالشعوب الأوروبية لم تكن في حال أفضل مما نحن عليه يوم قبلت بالديمقراطية. أساس اللعبة هنا وبالذات: نخبة سياسية تعمل على تأسيس الديمقراطية، ولا تكتفي بالخطابات التجريدية، وإنما تسعى لتوفير النموذج الملموس، وهذا ما حدث في أوروبا بالتحديد، لتحظى المشكلة، بمرور الوقت، بقبول اجتماعي ولا تشكل تهديدًا للقيم الراسخة، بل تغدو جزءًا منها لاحقًا. أما نحن فكانت "نخبتنا" السياسية تعمل بالتواطؤ مع المجتمع وتعزيز مخاوفه، بشكل وبآخر، من الوافد الجديد!

لذا أنا أشكك بهذه الحقيقية: إن نخبة المنطقة الخضراء سيشيدون البنى التحتية للحرية والديمقراطية. أولًا، لأن الغالبية من هؤلاء هم أحزاب لا يوجد في أدبياتها الحزبية معنىً واضحًا للحرية والتعددية وقبول الآخر. وثانيًا، وهو المهم، أنهم يعززون اطمئنانهم بالحاضنة الاجتماعية الواسعة التي تشترك معهم بذات المخاوف، وأعني مخاوف الحرية وتهديداتها، والتي تتواطأ معهم من جهة، وتعارضهم من جهة أخرى: إنها تتواطأ معهم متى ما شعرت أن قيمها الاجتماعية معرضّة للتهديد. إن هذه الحاضنة تربط حرية التفكير أو النقد بكرامته الشخصية، ويغدو كل خطاب نقدي، في تصورها، ثأر مبطّن لأطرها المرجعية.

 إذا كانت حرية التعبير في تظاهرات واحدة كان ثمنها عشرات الشهداء ومئات الجرحى، فما بالك لو اتسعت قاعدة حرية التفكير؟! لا ادّعي التهويل في هذا التوصيف، ولا أعني ثمّة بوليس سري يطارد المفكر الحر ويحصي أنفاسه. الأمر بالتأكيد ليس بهذه الحرفية، لكنه يحظى بشواهد ومؤيدات ليست بالقليلة، وهي أننا مجتمع يضع حرية التفكير في قاموسه الرجيم؛ لا يمكنك أن تعبّر بحرية عن أفكارك في المؤسسة الأكاديمية، لا يمكنك أن تتناول أحد الرموز الروحية بالنقد والتحليل، لا يمكنك نقد العشائر بأسمائها الصريحة، فكل ذلك يعد مشكلة اجتماعية كبيرة وتعرضّك للمساءلة. بل أكثر من ذلك، تعرّض حياتك للخطر. وبالمناسبة لن يندرج الضحية هنا في عداد المأسوف عليهم وإنما في عداد المتهوريّن والمنحرفين الذين تطاولوا على قيم المجتمع المقدسة.

خطرنا الداهم يتمحور في اتساع رقعة الحرية، إذ سيكون ثمنها المرعب دمًا ودموعًا

فليس غريبًا على الإطلاق أن تغدو الحرية رديفًا للتحلّل والإباحية، لأنّها تهدد قيمنا المحافظة فلابد من تعريتها من مضامينها النبيلة. في مجتمع مثل المجتمع الأمريكي، مثلًا، عليك أن تحدد الخطر المٌتخَيّل على أنه خطر "شيوعي" لكي تكتسب شرعية اجتماعية للإطاحة بخصومك. ما عليك سوى تذكير المجتمع الأمريكي بأن الخطر القادم هو خطر شيوعي. لذلك تتردد هذه المقولة دائمًا، وبالخصوص في كتابات برجينسكي "أنهم يهددون قيمنا"، أي قيمنا المرغوبة، فما عداها يغدو مشكلة اجتماعية ينبغي مجابهتا. أما نحن فخطرنا الداهم يتمحور في اتساع رقعة الحرية، إذ سيكون ثمنها المرعب دمًا ودموعًا.

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

نضال التغيير ضد حماة "الأعراف المقدسة"

بعد فشل التوافق وتشويه التكنوقراط.. نحو انقسام صحي