15-أبريل-2020

تشوه الأعراف في نظام المحاصصة المفاهيم المتعلقة بالديمقراطية (فيسبوك)

أدى نظام المحاصصة الطائفية إلى تشويه المفاهيم السياسية الرئيسة المتعلقة بالنظم الديمقراطية، وضَرب الدستور على رغم الإشكاليات المطروحة حوله عرض الحائط، تاركًا لقادة النظام التمسّك بـ"الأعراف" التي تتيح إعادة تدوير أحزابهم ومكاتبهم الاقتصادية وصفقاتهم ومشاريعهم المعتمدة على موازنة الدولة، عَبر تقسيم المجتمع إلى طوائف، والطوائف إلى "معتزلين" عن المشاركة السياسية من الناقمين على الأوضاع عامةً، ومجاميع من الأصوات الانتخابية التي تعتاش على فتات الأحزاب أو المغيّبة بالآيديولوجية المنوّمة.

تم تقسيم الرئاسات الثلاث على "المكونات" الثلاثة، وصار تقسيمها عُرفًا يبدو الحديث عن تغييره ضَربًا من المستحيل

قُسّمت الرئاسات الثلاث على "المكونات" الثلاثة، وصار تقسيمها عُرفًا يبدو الحديث عن تغييره ضَربًا من المستحيل. يبدأ النقاش قبل وبعد كل انتخابات حول "من هو" الشيعي الذي سيكون رئيسًا للوزراء والسني الذي سيترأس السلطة التشريعية والكردي الذي سيجلس في قصر السلام، ذلك بغض النظر عن نتائج تلك الانتخابات. لكن المسألة منذ 2003 لا تنحصر فقط حول التقسيم الطائفي للرئاسات، بل بتوافق الطائفة الواحدة حول الشخصية المُراد ترشيحها ثم توافق بقية الكتل الممثلة للطوائف الأخرى عليها، ومن الطرائف المضحكة المبكية أن أحزاب المكونات تمتنع عن التصويت للمرشح الخاص بمكون معين دون توافق "ممثليه" أولًا! بل وتُعلن هذا الموقف دون خجل من النظام الديمقراطي الذي تدّعيه.

اقرأ/ي أيضًا: كورونا العراق: أزمات الاقتصاد وحلول "حافة الهاوية"

اتضح بشكلٍ لا ريب فيه، أن الآلية المُتّبعة في اختيار الحكومات لم تُفضي إلى تحسّنٍ ولو تدريجي في أدائها، بل فشلت على مستوى الديمقراطية والاقتصاد والخدمات والأمن، وفي إبعاد خطر الصراعات الخارجية عن الداخل، حتى تمخضت بواحدة من أسوأ الحكومات في تاريخ العراق.

كُتب الكثير عن أجواء تكليف عادل عبد المهدي بتشكيل الحكومة دون "كتلة كبرى" بتوافق أكبر تحالفين شيعيّين ثم توافق الآخرين ثم أُعيد النقاش ذاته منذ استقالة رئيس الحكومة، مصحوبًا بالمستجدات والفروض التي أضافتها انتفاضة تشرين بوصفها العامل الرئيس لإسقاط حكومته.

بعد أشهرٍ من النقاشات المحتدمة حول الشخصية التي ستَخلف عبد المهدي، مصطدمة بالمواصفات المطلوبة التي حددها منتفضو تشرين لها، أُختير محمد توفيق علاوي مع ما صاحبه من شرخٍ وصِدامات في ساحات الاعتصام بين المعتصمين الرافضين له والصدريين الذين تَبنت كتلتهم النيابية المكلف الجديد.

رغم الأحداث التي رافقت عملية التكليف، يُسجّل لعلاوي أنه شَرَعَ بالانقلاب الأول على "الأعراف" السائدة لناحية إصراره على اختيار أعضاء وزارته بنفسه خارج المحاصصة "الحزبية" لا الطائفية، ما خَلق فجوة واضحة بينه وبين الأحزاب الكردية والسنية، التي استفادت من نفور ساحات الاعتصام من علاوي بسبب تصرفات الصدريين، وأصرّت ـ أي الأحزاب ـ على عدم تمرير حكومته، وكَسبت بعض الكتل الشيعية (المنضوية في تحالف البناء) إلى جانبها، وأفشلت جلسات منح الثقة، ليَعتذر المكلّف، ويُسجل الانتصار الأول للأعراف.

بعد فشل مفاوضات "اللجنة السباعية" في تَقديم مرشح بديل إلى رئيس الجمهورية، اختار الأخير النائب عدنان الزرفي بترشيح (خمسين) عضوًا من زملائه. انقلبت الصورة الآن. لم تُبدِ الكتل السنية والكردية اعتراضًا على المكلّف الجديد، فيما أصرّت الكتل الشيعية ذاتها على عدم تمرير الزرفي منذ اليوم الأول، بل راحت أجنحتها المسلحة تُطلق تهديدات علنية، لأسباب لا تتعلق ـ هذه المرة ـ بتشكيلته الوزارية، بل بآلية التكليف التي تجاهلت قادة الكتل الشيعية حسب وصفهم جميعًا، وبشخص المكلّف حسب بعضهم.

مثّل تكليف الزرفي انقلابًا على ثاني "الأعراف" السائدة بتجاوز التوافق الطائفي الداخلي. ورغم تأكيد المقربين منه على ضمانه "الأغلبية النيابية"، إلا أن جلسة مَنح الثقة أُفشلت قبل أن يُحدّد موعدُها. كَسبت الكتل الشيعية المعارضة ـ بصورة مقلوبة عن حالة علاوي ـ الكتل السنية والكردية التي اشترطت علنًا "التوافق الشيعي" قبل التصويت على الحكومة. اعتذر الزرفي عن التكليف، وبدا واضحًا أكثر هذه المرة أن إفشال المكلّف كان بسبب "الأعراف" على وجه الدقّة، إذ رغم كونه ابنَ الطبقة السياسية والبيت الشيعي، لكن تكليفه "شق الصف" إلى مؤيدين ومعارضين.

 الأعراف التي أسستها الولايات المتحدة، تُحاول إيران وحلفاؤها المحليين ترسيخها ومنع الانقلاب عليها ممن يَصفوهم بعملاء واشنطن

انتصرت الأعراف في معركتين، معركة الوزراء غير المتحزبين مع علاوي، ومعركة اللا إجماع مع الزرفي، وأثمر انتصارها الثاني من خلال تَكليف الكاظمي بتأييد غير مسبوق من زعماء الكتل، رغم أنه ليس وزيرًا أو نائبًا سابقًا، لكنه جاء عبر الإجماع. الأعراف مرة أخرى وأخرى.

اقرأ/ي أيضًا: بعد فشل التوافق وتشويه التكنوقراط.. نحو انقسام صحي

في تقديراتِنا، يُمثّل تكليف الزرفي دون التوافق الشيعي تهديدًا للمناصب الكردية والسنية. إن تمريره في البرلمان عبر أغلبية نيابية بالمعنى الديمقراطي قد يَفتح الباب حاليًا ومستقبلًا على إمكانية تمرير شخصيات لرئاستي الجمهورية والبرلمان وبقية المناصب المندرجة تحت مسمى "استحقاق كردي".. "استحقاق سني"، عبر آلية الأغلبية الديمقراطية ذاتها، غير الخاضعة لمزاج رؤساء الكتل وأمراء الطوائف. قد يقود تجاهل زعامات شيعية إلى تجاهل زعامات سنية وكردية. لذا، فَشل الزرفي هو الآخر رغم مقبوليته النيابية، وسُجّل الانتصار الثاني للأعراف.

تجدر الإشارة إلى أن انقسامًا حادًا بين الحزب الديمقراطي والاتحاد الوطني حصل على منصب رئاسة الجمهورية بعد انتخابات 2018، التابع لمكون اعتاد سياسيوه على المجيء إلى بغداد كفريق واحد تاركًا خلافاته عند حدود كركوك، وقد حُسِم المنصب بالتصويت لا بالتوافق. كما حَصل ذات الصراع على منصب رئاسة مجلس النواب بين جناحين سُنيين، ثم حُسم لصالح الحلبوسي بالأكثرية، فما هي الحتمية المفروضة على منصب رئاسة مجلس الوزراء بتوافق كُل الشيعة؟

نُرجّح أن عوامل عديدة تلعب دورًا في هذا الاستثناء الشيعي، كوجود أجنحة مسلحة للأحزاب السياسية، وحساسية الموقع، وعلاقته بالصراع الخارجي وأثره على الداخل، وبل طبيعة الصراع داخل المكون السياسي الشيعي ذاته.

لا نتجاهل التأثير الخارجي وحديث الأوساط السياسية عن قُرب علاوي من إيران وقُرب الزرفي من أمريكا، وتأثير ذلك على مسارهما والمآلات التي وصلا إليها؛ لكننا نتحدث عن مشكلات في العملية السياسية حاولت انتفاضة تشرين إصلاحها، وتُحاول الكتل الرئيسة مقاومة هذه المحاولات. ولا شك أن لكل من الولايات المتحدة وإيران جيوش من المسؤولين والسياسيين والمسلحين وما دونه من فاعلين ومؤسسات إعلامية وصُنّاع رأيٍ، تُتيح للدولتين التدخل؛ لكن الحديث عن الإصلاح الداخلي يَتطلب مراجعة "الأعراف" التي أدت إلى هذا التدخل. أي تناول الأسباب لا النتائج. والمفارقة، أن تلك الأعراف التي أسستها الولايات المتحدة، تُحاول إيران وحلفاؤها المحليين ترسيخها ومنع الانقلاب عليها ممن يَصفوهم بعملاء واشنطن!

وما يؤكد الحاجة إلى النقاش في "الأعراف" الداخلية هو تكليف مصطفى الكاظمي (الموصوف بقربِه من الولايات المتحدة) برضا وتأييد حلفاء إيران، فمالذي تغيّر عن الزرفي؟ ـ إنها الأعراف.

ثمة إرادتان تتصارعان في العراق: إرادة من أجل التغيير، جسّدتها انتفاضة تشرين المعبّرة عن الشريحة الأوسع من المجتمع الرافض للنظام والمُطالِب بالإصلاح؛ وإرادة "مُحافِظة" يُجسّدها "جيشُ حماية الأعراف المقدس"، الذي يناضل من أجل إبقاء النظام على صورته، ونضال الجبهة الثانية الحالي مكرّسٌ لاستعادة أعراف المحاصصة ـ بعد هزّة تشرين ـ في توزيع المناصب والتوافق في اختيار الأسماء في حلٍ من ضغط الجماهير.

جسدت انتفاضة تشرين إرادة التغيير وهي تعبر عن الشريحة الأوسع من المجتمع الرافض للنظام والمُطالِب بالإصلاح

إنها معركةٌ مسكوتٌ عنها، بين شعبٍ معبّئ بالغضب من استباحة أموال الدولة وخيراتها وسيادتها بمعادلة سياسية حاول تيارٌ منه كسرها بانتفاضة جماهيرية؛ وبين طبقة سياسية مدعومة من عرّابين في الخارج وملحقاتٍ في الداخل، تستقتل للحفاظ على تلك المعادلة عبر التمسّك بالأعراف "المسمومة" الضامنة لوجودها، وليست معركةً بين "أشخاص" تابعين لجهتين يُرهن النجاح والفشل بوصول أحّدهم إلى السلطة، كما يُروج مثقفون ومعلقون وإعلاميون يزجون أنفسهم في صراع الخارج وينقسمون عليه.

لماذا هي أعراف مسمومة؟

نقول، طالما بَقيت هذه الأعراف، سينحصر تفكير الأحزاب السياسية خلال تنافسها "الديمقراطي" بمن سيحصل على أصوات أكثر، عبر الحصول على وزارات أكثر، ليمتص الأموال من خزينة الدولة، ويوزع ميزانيتها كوظائف ومشاريع، ليحصل على أصوات انتخابية أكثر، وهكذا تُعاد دورة الحياة السياسية المريضة بالآلية المسمومة التي لا تنتج تقدمًا على أيٍ من الصُعد، ولا تُجبر الأحزاب على التفكير باستمالة الشارع عبر التنمية والتطوير، بل توفر لهم الاستعانة بالسلاح والخارج على المعترضين والمطالبين بالإصلاح وكسر الأعراف.

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

في انتظارالسياسة

عصر الجماهير: لا جديد تحت نصب الحرية