13-أبريل-2020

تداعيات كورونا لا تختلف عن أي حربٍ عالميةٍ (Getty)

لست ضليعًا بالاقتصاد ولا أهضم مفاهيمه، لكن بالإمكان إعادة التذكير ببديهات ـ مصحوبة بمعلومات تصدرها منظمات وشخصيات معنية وأمثلة عملية بهذا الشأن ـ يكررها الاقتصاديون والخبراء، حول واقع دولنا العربية وتحديدًا العراق الذي قد يَجزم من يشاهد حجم الخراب والتخلف والفقر فيه مقارنة مع خيراته أن البلادَ مفتوحة للنهب على مستوى العالم.

أكثر من ثمانية ملايين شخص سيضافون إلى جيش الفقراء، ونحو مليونين آخرين سيفقدون وظائفهم وفق تقديرات لجنة الأمم المتحدة

تَسبب فيروس كورونا إضافةً إلى متغيّرات جديدة بالمزيد من المتاعب الاقتصادية للإنسان العراقي والعربي عمومًا. أضر بالفقراء كثيرًا، لكنه شَمل لناحية تأثيره الجميع. ولا تحمل الدراسات التي تعنى بأثر الوباء على حالة الفقر في العالم العربي أنباءً مفرحة، فبالإضافة إلى الصعوبات الاقتصادية التي يعاني منها المواطن العربي، هناك أكثر من ثمانية ملايين شخص سيضافون إلى جيش الفقراء، ونحو مليونين آخرين سيفقدون وظائفهم وفق تقديرات لجنة الأمم المتحدة "إسكوا".

حرب النفطة المرهِقة

أضافت الحرب النفطية بين المملكة السعودية وروسيا حملًا جديدًا على كاهل الدول المصدّرة للنفط والتي تتأثر بسوقه، إضافة إلى مشكلات الوباء، وهي حرب على احتكار التحكم بأسعار النفط، مبنية على قاعدة ساي: زيادة العرض ـ إنتاج النفط هنا ـ بهدف زيادة الطلب عليه. لا نعلم آثار هذه الحرب على مستوى الاقتصاد العالمي، والسعودي، وكيف سيتم تصريف النفط "المتكدّس بفعل العناد" عبر زيادة الإنتاج، مع تداعيات كورونا، فليس بالإمكان الجزم بموعد انتعاش أسعار النفط من جديد بعد الاتفاق الأخير بين أوبك وحلفائها على تخفيض الإنتاج، لكن ما نعرفه أن تقديرات الخسائر التي مُنيت بها المنطقة العربية جراء انخفاض أسعار النفط هي 11 مليار دولار خلال الفترة بين كانون الثاني ومنتصف آذار فقط.

اقرأ/ي أيضًا: كورونا العراق: دروس المواطنة والدين وحكم الكونكريت

واجهت دول أوبك إرباكًا عنيفًا بفعل تراجع الإيرادات بعد هبوط أسعار النفط بشكل كبير، ومن بينها دولنا العربية: العراق المُعتَمد على النفط بشكل أساسي والذي رسم ميزانيته الاتحادية على أساس 56 دولارًا للبرميل، والسعودية، التي قلّصت ميزانيتها خمسين مليار دولار، وتوترت علاقتها مع حليفها ترامب الذي هدد غاضبًا بفرض رسوم على النفط السعودي البالغ قرابة نصف مليون برميل يوميًا لتخوفه من فقدان عمّال النفط الصخري رواتبهم بسبب هذه الحرب.

تتوقع الدراسات تَصنيف أكثر من مئة مليون عربي في عدّاد الفقراء، وأكثر من خمسين مليونًا معرّضين لنقص في التغذية. هذا ما هو كائن، وما يجب أن يكون، هو ألّا يكون نحو ثلث سكان المنطقة العربية الغنية.. فقراء، إلى حد فقدان الحد الأدنى من متطلبات العيش الكريم.

تعطي تجربة كورونا الدليل العملي على بُطلان قياس نهضة الأمم حضاريًا أو ادّعاء تطورها عبر البناء العمراني وازدهار السياحة فحسب، بل على النموذج الاقتصادي، ونسبة تحصين الدولة بسد احتياجاتها محليًا من المواد الاستهلاكية للمجتمع، لكي لا تضطر إلى معالجة مشاكلها الاقتصادية بإجراءات تعسفية أو تقشفية تُهددها، بعد الضرر الذي أصاب الدول المعتمدة على الريع، والسياحة بمختلف أنواعها، والمعونات الخارجية. والأدهى من ذلك، أن دولًا لا تُقارن درجة تطورها بدولنا، مثل ألمانيا وكندا، معرضة لصدمات اقتصادية بحسب تقارير، لاعتمادها على التجارة الخارجية أو تصدير السلع، أكثر من دول غيرها تقل فيها نسبة صادرتها من الناتج المحلي.

استهتار النظام.. للصبر حدود

لا بد من أن تشمل الأرقام المذكورة حول خسارات المنطقة العربية وترجيحات الصدمات الاقتصادية لدول متطورة، جراء فيروس كورونا، وانخفاض أسعار النفط، بلدًا مثل العراق، يعتمد في أكثر من 90% من موازنته الاتحادية (112 مليار دولار في 2019) على عائدات النفط، مع فارقٍ كبير في البنى التحتية والمؤسسات والشركات والمرافق التجارية مع دول ريعية كالسعودية، وبطبيعة الحال، لا مجال للمقارنة مع الدول المتطورة ـ بينها المذكورة أعلاه ـ التي يُتوقع أن تتأثر بتداعيات الوباء.

ومن الصعوبة بمكان، في حالة نظام مثل العراقي، اعتاد أن يبيع النفط ويوزع الريع رواتبًا للموظفين، بل يَبيع الوظائف مقابل أصوات انتخابية أو رشاوى مالية، في أشبه ما يكون بعملية محاكاة للاقتصاد الريعي، أن يجد حلولًا "عملية" للخروج من هذه الأزمة أو غيرها دون استيعاب واعٍ للصدمات، بل باتت الطبقة السياسية منشغلة في كيفية تأمين رواتب موظفي الدولة، العمود الرئيس لدخل المجتمع وحركة الاقتصاد، وأهم عنصر لامتصاص غضب الناس على الفساد وتردي الخدمات.

يدفع العراق ثمن سياساته الاقتصادية الكارثية، إن صحّت عبارة "سياساته الاقتصادية" في وصف ما يفعله النظام منذ 2003، الذي يَبيع النفط ويستخدم الريع في تكديس الموظفين الحكوميين ما أدى إلى ترهل أجهزة الدولة بجيش من البطالة المقنّعة، رفقةَ جيش من العاطلين عن العمل. ورغم أنها "سياسة اقتصادية" فاشلة بكل المقاييس وباعتراف العديد من رجال السلطة أنفسهم، إلا أن سياسة "التعيين" أتت بأؤكلها لناحية المصالح الحزبية الضيّقة، فحتى الآن، لا زال لدى بعض الناس حنين لعهد نوري المالكي في رئاسة الوزراء، حيث الموازنات المفتوحة المنتعشة من صعود أسعار النفط و"التوظيف بالجملة"، لكن الفائدة الحزبية من هذا الخيار الاقتصادي غير المسؤول لن تَمر هكذا دون تهديدات حقيقية تطال أحزاب السلطة بأكملها، سواء أجاءت بعدم إمكانية تسديد الرواتب الموظفين بتأثر انخفاض أسعار النفط، أو بيومٍ مرعب "لا نجد فيه مشترٍ للنفط" كما عبّر وزير الإعمار والإسكان بنكين ريكاني.

الطبقة السياسية منشغلة في كيفية تأمين رواتب الموظفين، العمود الرئيس لدخل المجتمع وحركة الاقتصاد، وأهم عنصر لامتصاص غضب الناس على الفساد وتردي الخدمات

ينطلق تشاؤمنا من عدم اتعاظ السلطة من الدروس والعبر المتتالية، فهي لا تسعى إلى تنشيط اقتصاد فعّال وتنويع مصادر الدخل فحسب، بل تستورد منتوج (الغاز) المشتق من المنتوج الأساسي (النفط) الذي تعتمد عليه كثاني أكبر دولة منتجة له في أوبك. زد على ذلك، محاولات السلطة في احتواء الغضب الشعبي عبر التوظيف الحكومي، كما حصل في وزارة الكهرباء عقب اندلاع انتفاضة تشرين. ارتكب رئيس الحكومة المستقيل عادل عبد المهدي أحد أكبر الجرائم بإضافة نصف مليون موظف خلال مدة حكمه القصيرة (قرابة سنّة فقط)، الأمر الذي وصفه رئيس الوزراء المكلف المعتذر وعضو اللجنة المالية النيابية عدنان الزرفي بـ"الضحك على الناس".

اقرأ/ي أيضًا: فيروس كورونا: العلاج باليوتوبيا!

إن التطمينات التي تطلقها الحكومة حول رواتب الموظفين والمتقاعدين لن تكفي أزمات مثل كورونا وغيرها في حال استعاد سوق النفط عافيته من جديد، فما بالك إن تعرّض لنكسة أخرى؟ ـ فالمشكلة ليست بمن يمتلك راتبًا، بل بمن لا يمتلك. الكسبة والعاملون بمختلف صنوفهم والأجراء اليوميون وسائقو المركبات وأصحاب الحرف المهنية المختلفة الذين وعدهم مستشار عبد المهدي الاقتصادي بثلاثين ألف دينار لكل شخص تعويضًا عن اضطرارهم للبقاء في البيوت تنفيذًا لقرارات خلية الأزمة. تُعالج ثاني أكبر دولة في أوبك ورابع دولة في الوطن العربي لناحية السكان أزمة فقراءها بـ 24 دولارًا .. فماذا تتوقع منهم؟.. وللصبر حدود.

لنستغل حافة الهاوية

مثلما يتكيف الإنسان مع الظروف المسلّطة عليه من الناحية المادية والمعنوية وحتى البيولوجية حسب ما يخبرنا دارون، فأن الدول تسعى للتكيّف أو الاكتفاء الذاتي بتعبيرات الاقتصاد، مع الظروف أو الضغوط التي تتعرض لها، وجراء تلك التغيّرات يزداد الاعتماد على الذات، وقد خَبِر العراق هذه التجربة في عقد التسعينيات مع الحصار المفروض عليه من الولايات المتحدة الأمريكية، واضطر النظام السابق لحشد أقصى الإمكانيات المحلية في عدة مجالات وأهمها الزراعة والصناعة، ليسد الاحتياجات المحلية قَدر المستطاع، واعتمد البطاقة التموينية، وهي سلة غذائية توزع من خلال 40 ألف متجر في عموم البلاد. وتبرز أهمية السعي نحو الاكتفاء الذاتي في أوقات الحروب، حيث الاعتماد على المنتجات المحلية بدل الاستيراد لسد الحاجة من الغذاء والدواء وبقية السلع والخدمات. وتداعيات كورونا لا تختلف عن أي حربٍ عالميةٍ، كما أن العراق في حالة حرب مستمرة منذ عقود من الزمن، أضاف إليه الوباء عبئًا أكبر بعد أن اضطر لإغلاق الحدود لمنع تفشي الفيروس، فلماذا لا تُستغل الخسائر المترتبة من التجربة المؤلمة في تغيير شامل يَكسر مسلسل استنزاف الثروات عبر استثمار الطاقات المحلية لمعالجة آثار التخبطات القديمة واحتواء الغضب الشعبي والعمل على رفع مستوى معيشة المواطن بإجراءات قاسية ومُرضية في ذات الوقت؟

مثلما هو حال الإنسان الذي تُبدع قريحته حين يواجه التحديات والأخطار كالموت، ويقفز على كل عاداته المُعطِّلة للنشاط الذهني والبدني، فالدولة بحاجة إلى أن تنتفض على واقعها الاقتصادي الذي يُعرضّها للخطر، وبإمكان النظام العراقي تسويق أزمة كورونا كـ"حافة هاوية" مفروضة من عدو لا مرئي.

ولجعل الأمور أكثر واقعية من خيالية، بالإمكان استحضار تجربة بسيطة معاصرة للنظام ذاته، بالإمكان توسيعها، حيث اضطر العراق في أزمة كورونا وانقطاع التواصل التجاري السهل مع دول العالم وانشغالها بأزماتها، على إنتاج مستلزماته الطبية بنفسه. اجتهدت وزارات النفط والصناعة والتعليم العالي والزراعة لصناعة وتوفير أجهزة التنفس وأقنعة الوجه (الكمامات) والمواد والأوعية الطبية والمعقمات والمنظفات لسد الاحتياجات المحلية قدر الإمكان.

وبذات الواقعية، ليس من السهل أن تُحصّن دولنا اقتصاديًا دون تضامن ووحدة عربية على جميع المستويات، ومادام الحديثُ عن الدولة العربية ككيان وطني يُصارع لأجل البقاء، فأن الاكتفاء الذاتي في عصرنا الحديث أمر مستبعد، لكن المهم هو ضمان الحاجات الأساسية للناس ورفع مستوى معيشتهم وتوفير الرعاية الصحية وتطوير بناها التحتية، والأهم ـ هنا والآن ـ هو بناء علاقات ثنائية فعّالة بين العراق ودول الجوار وغيره، أكثر صحية وعملية، مبنية على مصالح الدولة والنظام ذاته، وليست إرضاءً للدولة الأخرى، كمثال استيراد الغاز، أو اتفاقيات الأردن التي لا يَعرف أحد فحواها وجدواها.

 دعوات الإصلاح الاقتصادي ليست خيالية، بل واقعية إن كانت الطبقة السياسية تُفكّر بمصلحتها بمنظار أوسع هي دون أن تأخذها العزة بالفساد

مرة أخرى، إنها عقدٌ وحلول نظرية مع أمثلة عملية، لكنها تتطلب نخبة موجودة على أرض الواقع، واعية لمتطلبات عصرها والدولة التي تقودها، والمصالح العليا للنظام التي تشملها بطبيعة الحال. فعدم قدرة الدولة على تأمين رواتب سبعة ملايين موظف يُمثّل خطرًا على الطبقة السياسية ذاتها، ناهيك عن خطر العاطلين والعاملين بالأجر اليومي وذوي الدخل المحدود. وفي حالات مثل وباء كورونا، يكون النظام أمام  خيارين، إما تعطيل الاقتصاد لوقت طويل، وتنشأ هنا احتمالية تمردٍ يَشل النظام وتضعف قدرة القوات المسلحة في السيطرة عليه، أو أن يُفلت القبضة ويُتيح للفيروس أن ينال من المجتمع، وفي الحالتين، فأن الخطرَ سينال منهما، بالتالي فأن دعوات الإصلاح الاقتصادي ليست خيالية كما يظن المحبطون، بل واقعية إن كانت الطبقة السياسية تُفكّر بمصلحتها بمنظار أوسع هي دون أن تأخذها العزة بالفساد.

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

هل يضع كورونا "قدم الصناعة العراقية" على الطريق الصحيح؟

المؤامرة والعار في زمن كورونا.. نظريات أم فيروسات؟