حسنًا، لو طلب مني وضع عنوان لفصل من فصول ما بعد 2003 لاقترحت أن يكون هكذا؛ لا جديد تحت نصب الحرية. الأشياء تتشابه وتتكرر، وجماهيرية اليوم ذاتها جماهيرية الأمس، لكن الظروف شتى والسياق غير السياق. نعم، نصب الحرية الذي ينصت لصراخ الشبان منذ بدايات تشرين 2019 هو نفسه الذي رأى (عصر الجماهير) الذي أزاح عصر النخب. حدث ذلك قبل 14 تموز 1958 سواء كان الحدث انقلابًا أم ثورة ثم ترسّخ بعده. في اللحظة الأولى، سبق أن رأينا الجماهير وهي تدخل المشهد لتزلزله وتهزّ أحزابه التقليدية مغيرة صراعاتها الداخلية الفولكلورية. وفي لحظة 2019، انصتنا لخطى الشبان والمكاريد وسوّاق التكاتك وهي تقرع أسفلت المشهد السياسي مزلزلة نظامه ومجبرة رموزه على تغيير قواعد لعبتهم التقليدية.
عصر الجماهير هو العصر الذي يظهر فيه الناس "العاديون" كما لم يظهروا قبله. يظهرون بموازاة النخب التي دأبت على احتكار الحديث
لكن، ما المقصود بعصر الجماهير؟ أنه العصر الذي يظهر فيه الناس "العاديون" كما لم يظهروا قبله. يظهرون بموازاة النخب التي دأبت على احتكار الحديث باسمهم في الصالونات الأنيقة. آنذاك، لم يكن يسمح لـ(عليوي) و(شلتاغ) و(رسن) بإبداء رأيهم فيمن يحكمهم أو الطريقة التي يحكمون بها. لهذا مثلًا، سخر فهمي المدرس، حسب شهادة زكي خيري، ممن طالبه ذات يوم بإعادة نشاط الحزب الوطني الذي جمده جعفر أبو التمن عام 1930 على خلفية النقاش على معاهدة ذلك العام الشهيرة. كان أبو التمن قد جمد الحزب خشية من دخول الجماهير كما يزعم زكي خيري. وفي اجتماع ما، طالب رئيس فرع الحزب في بعقوبة فهمي المدرس بإعادة الحزب بتنظيم مؤتمر انتخابي جديد، وهنا سخر (المدرس) منه وقال: ومن ننسب لوزارة الداخلية أعضاء للهيئة الإدارية؟ (علو) و(جلو)؟ كان يسخر من "الرعاع" كما يوضح زكي خيري.
اقرأ/ي أيضًا: على جسر الجمهورية
قد تبدو المسألة معقدة، لكنها بسيطة أيضًا؛ طالما بقيت الجماهير دون لسان، سيظل لعلية القوم أحقية تمثيلها. لكن بمجرد سماع صوت الأهالي، ستهتز المعادلة وتتمزق الخارطة، وهذا ما جرى ابتداءً مما بعد الحرب الثانية وصولًا إلى ما قبل الرابع عشر من تموز وبعده. حدثت تبدّلات اجتماعية عميقة، ريفيون نزحوا للعاصمة، وعي طبقي تفجّر، خطاب ثقافي معبر عن طبقة وسطى ترسخ. وبالنتيجة، دخلنا عصر الجماهير فأتيح للسان (علو) و(جلو) أن يغرد بلغة شعبية غير مسموعة سابقًا، ثم شرع اللسان في النضوج فأصبح بليغًا إلى أن فرض نفسه على صراعات الحياة السياسية. لهذا مثلًا، كان انشطر الحزب الوطني الديمقراطي إلى اتجاهين، واحد يريد فتح بوابة الحزب للجماهير وتزعم هذا التيار محمد حديد، والآخر يرغب بغلق الأبواب أمام الفلاحين والعمال، وكان يتزعم التيار كامل الجادرجي. بل في المؤتمر الانتخابي عام 1960، تجسّدت المعركة بأقسى صورها فطعن بشرعية النتائج بعد إبعاد آلاف الأعضاء وتأخير البتّ بطلبات انتمائهم كي لا يغيّروا المعادلة. الأمر ذاته جرى في أروقة الحزب الشيوعي الذي شهد جدالًا عميقًا بين تيارين فيه؛ التيار الـ"شعبوي" المطالب بفتح باب الحزب أمام طارقيه الجدد، الجماهير، والتيار الـ"نخبوي" المعارض لهذا الاتجاه، الخائف من سقوط الحزب في أيدي الانتهازيين والشعبويين.
لعل أبو سعيد (عبد الجبار وهبي) أفضل من عبّر عن هذه الجدلية، لكن من زاوية نظر مختلفة. يقول في أحد أعمدته الرائعة بـ(اتحاد الشعب) عام 1960 إن "النقباء والسادة والخواص من ذوي الحسب والنسب كانوا ينظرون إلى الديمقراطية على إنها انحطاط وانهيار وفوضى تضيع معها مقاييس النبل والرفعة والفضيلة والحقيقة"، غير أن الزمان قد تغيّر، فإذا "الرعاع" يحطمّون "أغلال اليد والعنف والفكر"، فكان العصر الجديد، عصر الديمقراطية الذي لم يعد "النبيل" فيه يجرؤ "على أن يزدري الشعب".
أي نعم، "نبلاء" أمس آباء "نبلاء" اليوم، وجماهير تشرين وريثة جماهير ما قبل تموز وما بعده. اللحظتان متشابهتان كما يشبه ابن أباه. وفي النهاية تبقى النتيجة: لا جديد تحت نصب الحرية، بل، في كلّ يوم تشرق شمس جديدة فوق نصب الحرية.
اقرأ/ي أيضًا: