08-مايو-2020

تتأرجح القوى السياسية العراقية بين سياسات الولايات المتحدة وإيران (فيسبوك)

انتهى فصل حكومة عادل عبد المهدي بعد سبعة أشهر دامية، لم تكن التظاهرات الحاشدة والقمع والاغتيالات والخطف هي المشاهد السائدة فيها فقط، بل تخللها الحاضر الدائم، الصراع الخارجي على الأراضي العراقية، منذ ضرب القاعدة العسكرية الأمريكية في كركوك ثم الرد على ثكنات كتائب حزب الله في الحدود العراقية السورية ثم محاصرة سفارة واشنطن في بغداد واغتيال سليماني والمهندس، وقصف إيران لقاعدة عين الأسد في الأنبار، ناهيك عن محاولات استهداف السفارة بالصواريخ قبل هذه الأحداث وبعدها.

كان وصول رئيس جهاز المخابرات مصطفى الكاظمي المُتهَم من حلفاء إيران بالعمالة للولايات المتحدة، إلى رئاسة الحكومة، صادمًا لبعض المتابعين

نعم، هي تظاهرات شعبية خالصة، لكنها بحكم الواقع السياسي العراقي، أشعلت الاضطراب في توترٍ كان مستقرًا بين الولايات المتحدة وإيران، وخلقت توترًا غير مستقر عبر الاستهداف المباشر للأرواح خلافًا للتحرشات السابقة. وإذ تحدثنا في مقالتين سابقتين عن طبيعة هذا الصراع ومتغيراته، ولأثره على الوضع الداخلي شعبيًا وسياسيًا، لا بد من تسليط الضوء على إحدى مفاصله.

اقرأ/ي أيضًا: معادلةُ "التوتر المستقر" في الشرق المستعر

أعطى فشل محمد علاوي وعدنان الزرفي بتشكيل الحكومة المزيد من الأمثلة لفهم السياسة في العراق بالنسبة للمراقبين الأجانب أو المحليين أصحاب النظرة الواحدة، وهي سياسة مركّبةٌ رغم سذاجة بيادقها، ولا يمكن إيلاء جانب دون آخر الأهمية في تحليلها، وربما كان وصول رئيس جهاز المخابرات مصطفى الكاظمي المُتهَم من حلفاء إيران بالعمالة للولايات المتحدة، إلى رئاسة الحكومة، صادمًا لبعض المتابعين، خاصةً وأن "العمالة لأمريكا" كانت من بين أسباب رفض عدنان الزرفي، وسيكون ذلك حافزًا لقراءة المشهد بمنظار أكثر واقعية.

لم تمضي ساعتان حتى رحّب السفير الإيراني في بغداد بمنح البرلمان الثقة للكاظمي، تبعه وزيره بطلوع الصباح. إن هذا الترحيب السريع، وتصويت حلفاء إيران السياسيين على الكاظمي وسكوت الفصائل عنه، يُجبِر المرء أن يشك بوجود ضمانات ما. ثلاث ساعات فقط ورحّب وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو بوصول الكاظمي إلى رئاسة الحكومة، مع "هدية" مفادها أربعة أشهر أخرى تسمح للعراق باستيراد الطاقة من إيران.

منذ أن فرضت الولايات المتحدة عقوبات على قطاع الطاقة الإيراني عام 2018 وهددت بعقوبات ثانوية على من يتعامل معها في هذا القطاع، تعطي واشنطن استثناءات أو إعفاءات مؤقتة للعراق من العقوبات تسمح له باستيراد نحو 1500 ميغا واط من الكهرباء ومليار مليون قدم مكعب من الغاز من إيران.

لم يتعرض العراق إلى أزمة في الطاقة الكهربائية خلال صيفه اللاهب الماضي بفعل تمديد الولايات المتحدة للاستثناء أربعة أشهر في حزيران/يونيو، ومع انطلاق تظاهرات تشرين الأول وإخمادها بالقوة المُفرِطة، مددت واشنطن في 17 تشرين الأول/اكتوبر 2019 الإعفاء للعراق أربعة أشهر أخرى، قبل أن تعود التظاهرات وتتحول إلى اعتصام مفتوح بعد أسبوع من هذا التاريخ.

استقال عادل عبد المهدي، وتأخر تكليف البديل حتى الأول من شباط/فبراير 2020، وقبل أيام من انتهاء مدة الإعفاء، جددته الولايات المتحدة خلال تحضير محمد علاوي لبرنامجه وتشكيلته الحكومية، لكن لمدة 45 يومًا، بواقع أقل من نصف المدد الممنوحة للمرتين السابقتين. ومع اعتذار علاوي وتكليف عدنان الزرفي، انتهت المدة، ثم تجددت في 26 آذار/مارس وتقلصت هذه المرة إلى شهر واحد، بواقع ربع المدتين المذكورتين في عهد عبد المهدي، مع إشارات إعلامية بأنها "الأخيرة". لكنها لم تكن الأخيرة..

اعتذر الزرفي هو الآخر، وكُلِّف الكاظمي بتشكيل الحكومة. وخلال مدة تحضيره لبرنامجه وتشكيلته الحكومة أُعيد التجديد مع انتهاء المهلة، وبذات المدة التي مُنحت سابقًا، 30 يومًا، مع إمكانية التجديد بعد تشكيل "حكومة ذات مصداقية".

بعد منح الثقة، أعلن بومبيو خلال رسالة الترحيب بتشكيل الحكومة أن بلاده ستمدد الإعفاء من العقوبات أربعة أشهر كما كانت قبل استقالة عبد المهدي، لـ "توفير الظروف المناسبة للنجاح"، ذلك قبل انتهاء مدة الاستثناء الأخير بعشرين يومًا!

غير الطبيعي، هو ما يفعله سياسيو العراق، فكلمة "تنازل" هي المفتاح لتسوية أو مكسب مقابل، إلا في العراق، فهي تعني تسوية بين دولتين خارجيتين على أرضه

تعطي هذه الأرقام والتواريخ المرتبطة بالأحداث تصورًا عن شكل العلاقة الأمريكية الإيرانية في العراق والوضع المؤسف للأخير. تُقدّم الولايات المتحدة الاستثناءات بحسب موقفها. تضغط هنا وتخفف هناك. تستجيب إيران للضغوط عبر أدواتها العراقية، وتحصل على المكاسب بتنازل حلفائها لصالح خصمها الأكبر.

اقرأ/ي أيضًا: التوتر غير المستقر.. حروب ما بعد سليماني

تكون المعادلة على شكل المثلث التالي: تمارس الولايات المتحدة ضغطًا وترفعه بما يعتبر تنازلًا لكن دون أن تخسر شيئًا في الواقع، وهي تعطي لإيران جهاز تنفس اصطناعي يخفف من ضغط العقوبات الخانقة لنظامها، عبر العراق، مقابل ثمن. تضغط إيران بواسطة حلفائها العراقيين للحصول على هذا الجهاز الذي يبطّئ عملية موتها الاقتصادي، من خلال شراء السلع بثمن الواردات المستحصلة من تصدير الطاقة. يستمر قادة العراق، بلد النفط، باستيراد الغاز والكهرباء التي يُزيد انقطاعها من احتمالية الاضطرابات الشعبية في فصل الصيف.

هنا، لا نلوم إيران على ما تفعله مثل أية دولة تهيمن في إقليم ما، كما أن الولايات المتحدة غير مدعوّة للتفكير بالاستنزاف الاقتصادي العراقي ومصير أجيالنا اللاحقة، والدولتان تمارسان الفعل الطبيعي للسياسة. أما غير الطبيعي، هو ما يفعله سياسيو العراق، فكلمة "تنازل" هي المفتاح لتسوية أو مكسب مقابل، إلا في العراق، فهي تعني تسوية بين دولتين خارجيتين على أرضه.

لا يُفكّر هؤلاء الهواة بتطوير البنى التحتية وزيادة الاعتماد الذاتي حتى مع هبوط أسعار النفط وتداعيات فيروس كورونا وتداعياتهما على رواتب الموظفين والعجز الهائل في الموازنة المالية، وهو ما يُهدد سلطتهم ذاتها.

لا يفكرون بأنها ليست تسوية أبدية، وأن أدواتهم للضغط معرّضة للصدأ مع الانهيار الاقتصادي والنفور الشعبي، وأن الولايات المتحدة تستهوي لعبة الضغط، وبإمكانها الإبقاء على تجديد الإعفاء كما جددت "التنازل" عن الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل منذ عام 1996، خاصةً مع سعي ترامب لتصفير صادرات إيران النفطية. ومن الواضح أن بقاء التجديد معلّق بهذه الطريقة لا يُبشّر بأنهم (أعني المسؤولين) سيفعلون شيئًا، فرغم حديث وزير الكهرباء عن تقليل استيراد الطاقة من إيران، لكنه أعطى سببين من ثلاثة يتعلقان بالظروف الجوية والاستهلاك، ما يعني أن اعتمادنا على الكهرباء المستوردة من إيران ـ وهي ثلث الحاجة المحلية ـ سيعود خلال الصيف المقبل.

نستنتج بما لا يقبل الشك، ما لم يعد خافيًا على أحد، أن القوى السياسية العراقية لا تمتلك أية خطة للخروج من مأزقها ومأزقنا، وهي تتأرجح بين سياسات الولايات المتحدة وإيران بما يضمن مصالحهما دون التفكير بمصالح العراق وبمصلحتها هي، وإن دَفع البلاء الآن بطريقة "بيضة اليوم أحسن من دجاجة باجر" لا يعني أن المشكلة انتهت، وقد يأتي الغد دون دجاجة ولا بيضة. يتضح هنا أثر غياب المشروع الوطني الذي يرعى المصالح العليا للبلاد في العلاقة مع الدولتين، ويتخذ القرارات الجريئة التي تُجنّب الدولة ابتزاز الآخرين وفرشهم لها كساحة للصراعات وتصفية الحسابات.

من خلال الأرقام والتواريخ والأحداث التي ذُكِرت رأينا أن الولايات المتحدة قلّصت مدة الإعفاء في مراحل التكليف كنوع من الضغط، ثم وسّعتها بعد تكليف الكاظمي وأعادتها إلى مرحلة ما قبل التصادم العسكري، ما يعني إمكانية وجود "فترة من الهدوء" وعودة إلى مرحلة "التوتر المستقر"، وهي مرحلة استنزاف، على عكس ما يُروّجه بعض المُصابين بفيروس المحاصصة المستجد، الذين راحوا يبحثون عن توافق خارجي يُحاكي النموذج الداخلي البائس، لكنها مرحلةٌ لا تمنع إمكانية انبثاق مشروع وطني لو توفرت الإرادة والجُرأة.

 القوى السياسية العراقية لا تمتلك أية خطة للخروج من مأزقها ومأزقنا، وهي تتأرجح بين سياسات الولايات المتحدة وإيران بما يضمن مصالحهما دون التفكير بمصالح العراق

وعلى ذكر المشروع الوطني، لا بد من ملاحظة أخيرة: لقد اتُهمت انتفاضة تشرين من أكبر المسؤولين الأمنيين والسياسيين ومن على المنابر الدينية ووسائل الإعلام ومنصات التواصل بأنها صنيعة أمريكية، وبات واضحًا، بالاستناد على ما سُرِد أعلاه ما هي القضايا التي تشغل قادة البلاد، وما هو نوع التسويات التي يبحثون عنها ويرفضون النيل منها، ويشعرون بخطر تهديدها.

اقرأ/ي أيضًا: واشنطن تمنح الكاظمي "هدية" نيل الثقة.. والسفارة الأمريكية في بغداد تعلق

لقد مددت الولايات المتحدة مدة الإعفاء للعراق أربعة أشهر منتصف تشرين الأول/اكتوبر 2019، أي بعد أن قُمِعت الانتفاضة في أسبوعها الأول، وقبل أن تعود وتثبّت أقدامها في 25 من ذات الشهر، ونحن هنا أمام احتمالين: إما أن الولايات المتحدة لم تكن تعلم أن المتظاهرين سيعودون أقوى من السابق بعد أسبوع من قرارها، لذا لم تُمارس الضغط الذي مارسته مؤخرًا، وبالتالي هي ليست راعية للتظاهرات كما يُروّج أصحاب نظرية المؤامرة وحلفاء إيران؛ أو أنها كانت تعلم بعودة التظاهرات من خلال مجسّاتها وتواطئت مع القوى السياسية ولم تضغط عليها كما يُفترض أنها فعلت بعد ذلك، وهي شهادة براءة تأريخية لانتفاضة وطنية لن يكون العراق صغيرًا بين الدول إن سارَ الذين خوّنوها على مبادئها.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

قراءة في الحراك التشريني

رياح الحرية والقيم الراسخة.. هل مياهنا راكدة؟