31-مايو-2020

تواجه السلطات العراقية معضلة في طرق احتواء فيروس كورونا (AFP)

"انتهت حلول الأرض.. الأمر متروك للسماء"

تناقلت مواقع التواصل الاجتماعي العربية هذه العبارة منسوبة لرئيس الوزراء الإيطالي معلقًا على انهيار النظام الصحي وتفشي فيروس كورونا بشكل لا يُمكن السيطرة عليه بالوسائل المُتاحة وبالتالي ترحيلها إلى رحمة السماء.. ومع عدم وجود أي مصدر أو موقع مُعتَمد يُثبت حقيقة تصريح الرئيس الإيطالي، إلا أنه صار مضربًا للأمثال الجدية والساخرة عن واقع الحال في منطقتنا.

جلس أعضاء الحكومة الجديدة على كراسيهم الجديدة وخزناتهم شبه خالية من الأموال بعد عام بائس لحكومة عادل عبد المهدي

ورغم غياب الدليل على صحة العبارة إلا أنها تُفسّر الكثير من جوانب الحياة في بقعتنا المبتلاة بالأوبئة الصحية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، خاصةً في العراق الذي يواجه ـ مع أزمة فيروس كورونا ـ أزمة اقتصادية عاصفة تترافقان مع المشكلات السياسية المُعتادة، والمستحدثة بفعل انتفاضة تشرين، وملف الصراع الخارجي داخل العراق، والخروق الأمنية الخطيرة التي تصاعدت في الآونة الأخيرة.

اقرأ/ي أيضًا: بين تظاهرات العراق وأمريكا: مطربة الحي لا تطرب

جلس أعضاء الحكومة الجديدة على كراسيهم الجديدة وخزناتهم شبه خالية من الأموال بعد عام بائس لحكومة عادل عبد المهدي، التي قال الكاظمي إنها "حققت الكثير من الإنجازات لكنها ظُلمت"، وصار لزامًا بحكم الواقع أن يُعالج الرئيس الجديد ما خلّفه سلفه المظلوم بالخزانة الخاوية التي استنزفها خلال فترة ولايته القصيرة.

لا تقتصر الأزمة الاقتصادية على دولة دون أخرى، فالعالم كله يواجه تحديات كبيرة فرضتها إجراءات الوقاية من الوباء بالعزل وحظر التجوال وإغلاق القطاعات الحيوية وتوقف الرحلات الجوية والبحرية والبرية؛ لكن العراق الذي يحاكي في اقتصاده صاحب الأسواق الصغيرة الذي يعتاش على ما يبيعه يوميًا للزبائن، يواجه مشكلة مركبة مع الانخفاض في أسعار النفط الذي تعتمد عليه معظم الموازنة المالية الاتحادية، وترهل الجهاز الوظيفي للدولة والديون المتراكمة، وفساد متجذّر في الدوائر الحكومية وجشع لا ينتهي من أحزاب السلطة وسلاح منفلت يُهدد أية عملية إصلاحية.

لعله من المفزع ـ من الناحية النظرية ـ أن تعجز خامس أكبر دولة مصدرة للنفط في العالم والثانية في منظمة أوبك عن سداد رواتب الموظفين الرسميين لديها، لكن الواقع العراقي يُبرهن أن نظام المحاصصة الطائفية بإمكانه هدر المزيد من الأموال وإيصال البلاد إلى مرحلة القحط بالتساوي مع البلدان الخالية أصلًا من الثروات الطبيعية والمتخلفة اقتصاديًا.

تذبذبت أسعار النفط في العقد الأخير ووصلت إلى أعلى وأدنى مستوياتها متأثرة بالعرض والطلب والوضع السياسي والأمني، وأثرت بطبيعة الحال على موازنة العراق المعتمدة على النفط والتي تراوح السعر المحدد للبرميل فيها بين الخمسين وأكثر من ثمانين دولارًا. ومع زيادة مدخولات الحكومة وانخفاضها والإشارات المتكررة لضرورة إيجاد حلول لمشكلة الاعتماد الكُلي على الريع النفطي، لم تكترث السلطة العراقية لأهمية تنويع الإيرادات ولآفة الفساد التي تنخر الدولة وتهدر المليارات.

في سنة 2012 على سبيل المثال، ختمت منظمة أوبك العام بتسجيلها أكثر من مئة دولار للبرميل الواحد بمعدل (107.46 دولارات للبرميل) فيما حدد العراق موازنته وفق الإيرادات الناجمة عن تصدير النفط الخام على أساس معدل سعر قدره 85 دولارًا للبرميل الواحد وبمعدل تصدير مليونين وستمئة ألف برميل يوميًا، وبلغ العجز المُحدد وفق الموازنة العامة لتلك السنة أكثر من 14 ترليون دينار على أن تغطى من "المبالغ النقدية المدورة في صندوق التنمية والاقتراض الداخلية والخارجي ونسبة من الوفر المتوقع من زيادة أسعار بيع النفط أو زيادة الإنتاج" بحسب ما ورد في المادة 1/أولًا ب من قانون الموازنة.

تواجه السلطات العراقية معضلة في طرق احتواء فيروس كورونا من جهة وفرض حظر التجوال، وتأثير ذلك على الوضع الاقتصادي الداخلي للبلاد من جهة أخرى

في 2019، قُدرت الواردات على أساس معدل سعر 56 دولارًا لبرميل النفط بمعدل تصدير يقارب الأربعة ملايين برميل يوميًا، وبلغ العجز نحو 27 ترليون دينار بحسب قانون الموازنة. بمعنى أن صادرات النفط زادت ما يقارب المليون ونصف المليون برميل عن عام 2012 وزاد العجز إلى ما يقارب الضعف مع انخفاض معدل احتساب سعر البرميل نحو ثلاثين دولارًا. والجدير بالذكر أن العجز في 2019 زاد إلى الضعف عن العام الذي سبقه أيضًا.

اقرأ/ي أيضًا: الكاظمي وتصفير العدّاد.. مقاربات وملفات واحتمالات

الآن، مع وباء الفساد الذي استفحل قبل وأثناء انتفاضة تشرين، ووباء كورونا، وانخفاض أسعار النفط وتقليص الصادرات بحسب اتفاق أوبك الأخير بعد الأزمة الناجمة من حرب الأسعار بين روسيا والسعودية، وخلو الخزانة من الأموال، تواجه الدولة عجزًا هائلًا لم يتم تثبيته رسميًا حتى اللحظة، وفي ظل حديث وزارة المالية عن عجز سيصل إلى 45 مليار دولار لهذا العام، وتتحدث الحكومة عن معالجات عبر قضية ازدواج الرواتب وتخفيض الرواتب العليا ـ رغم حديث عن أنها قوانين لا تُعدّل إلا بقوانين ـ ، وربما تلجأ للاقتراض أكثر لتمشية رواتب الموظفين الدُنيا عن طريق صندوق النقد الدولي أو الدول الخارجية كما أشيع حول غرض زيارة وزير المالية العراقي إلى السعودية واقتراضه ثلاثة مليارات دولار التي قال عنها الوزير إنها مجموع استثمارات فحسب.

لناحية الوضع الصحي وازدياد أعداد المصابين بفيروس كورونا والمخاوف من انهيار النظام الصحي بسبب اكتظاظ الحالات وتحول مستشفيات مختلفة إلى أماكن لعزل المرضى، تواجه السلطات العراقية معضلة في طرق احتواء الفيروس من جهة وفرض حظر التجوال، وتأثير ذلك على الوضع الاقتصادي الداخلي للبلاد من جهة أخرى.

على سبيل المثال البسيط، واستنادًا على وجود ثمانية ملايين موظف في الدولة، بمعنى أقل من 25% من المجتمع، نفترض وجود موظف في عائلة من أربعة أفراد سيؤثر تقليص راتبه أو تأخيره على العائلة بمجملها، وإذا وسّعنا النموذج وافترضنا وجود موظف حكومي وثلاث كسبة، يعيلون عائلة كبيرة، سيكون مدخول الأسرة في ظل الإجراءات الوقائية وحظر التجوال معتمدًا على الراتب الحكومي لفرد واحد فقط مع إمكانية تقليصه، وأمام خزانة شبه خاوية ستكون الدولة عاجزة عن تعويض المتضررين ما يؤثر على مجمل الحالة الاقتصادية والمعيشية.

نقول ذلك مع تصريحات بدأت تظهر من وزير الصحة الجديد فما دون بضرورة "التعايش مع المرض" وعودة الحياة إلى طبيعتها مع إجراءات الوقاية المُتعارف عليها. لكن "التعايش" قد يؤدي إلى تزايد أعداد الإصابات وانهيار النظام الصحي المهترء أصلًا مع ضعف الخدمات الطبية بفعل الفساد المتراكم، لذا لجأت ـ ربما ـ الحكومة مجددًا إلى تمديد حظر التجوال بعد عطلة عيد الفطر المبارك، في تناقض واضح مع تصريحات رأس الحربة في مكافحة الفيروس، وأعني وزير الصحة، وهو ما يؤشر إلى عدم وجود خطة واضحة للحكومة، أي أنها لا تملك شيئًا لتقوله قبل أن تفعله وسينطبق ذلك لاحقًا حتى على دعوات #خليك_بالبيت، وهو الملخّص الذي نريد قوله في هذه السطور.

لا توجد خطة حكومية لإنقاذ الوضع الاقتصادي. لا تمتلك خزينًا مسعفًا. لا توجد مؤشرات على ارتفاع سريع بأسعار النفط. السحب من احتياط البنك المركزي سيؤدي إلى تدهور قيمة العملة المحلية وبالتالي التأثير المباشر على الإمكانية الشرائية للمواطنين. البقاء في حظر التجوال لتجنب تفشي فيروس كورونا سيعطّل أعمال الناس ويزيد من تفاقم الأزمة. رفع حظر التجوال قد يؤدي إلى انهيار النظام الصحي وما يحمله من أضرار مادية ومعنوية جسيمة. واليأس على أية حال أروح من الحيرة كما يقول نجيب محفوظ.

لطالما امتلكت السلطة وأحزابها حلولًا نظرية تَعِب المتخصصون من تكرارها في الصحف وعلى شاشات التلفاز ومواقع التواصل دون اكتراث من المسؤولين الغارقين بجهلهم وفسادهم؛ لكنها اليوم، وفق المعطيات الموجودة، تفتقد حتى للحلول النظرية (غير فيروس الاقتراض)، فهي بحاجة إلى معجزة عالمية على صعيد الوباء، ومعجزة داخلية سياسية على صعيد محاربة الفساد، ومعجزة اقتصادية في كيفية عبور الأشهر القادمة بسلام، ومعجزة في إيجاد خطة للخروج من حالة المطرقة الأمريكية المتمثلة بالعقوبات، والسندان الإيراني الذي يكافح للإبقاء على مصالحه التجارية في العراق، وسيُحدد الحوار الاستراتيجي المرتقب مع الولايات المتحدة ملامح المسألة الأخيرة.

لا توجد خطة حكومية لإنقاذ الوضع الاقتصادي. لا تمتلك خزينًا مسعفًا. لا توجد مؤشرات على ارتفاع سريع بأسعار النفط

لعل المرء يتساءل بعد المزيد من الفحص والتأمل في القضايا الشائكة والمعقدة التي فقدت الإمكانيات النظرية لحلها فضلًا عن غياب الإرادة الإصلاحية وتطبّع النظام مع الفساد والأزمات العالمية والإقليمية: هل انتهت حلول الأرض؟

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

كورونا العراق: أزمات الاقتصاد وحلول "حافة الهاوية"

كورونا العراق: دروس المواطنة والدين وحكم الكونكريت