كان من المفترض أن تدخل العملية السياسية مرحلة تصفير العداد مع حكومة عادل عبد المهدي متجاوزةً السنوات التي شابتها انتكاسات وحروب أهلية ومحطات كارثية، بعد انتهاء المعارك مع تنظيم داعش ودخول المعارضين إلى العملية السياسية بل انقلاب أعداء الأمس لحلفاء اليوم وإبطال مفعول استفتاء الانفصال الذي أجرته حكومة إقليم كردستان، لكن المرحلة تعثرت بفعل الأداء المبتذل للحكومة وتكالب الأحزاب على الفساد إضافة إلى الظروف الخارجية الشائكة.
الصراع بين الشارع والأحزاب المهيمنة، أدى إلى سفك الدماء وأنتج الكاظمي، ولا يمكن إخماده بسهولة كما أظن
تشكلت الحكومة من خلال الثنائي الفتح ـ سائرون كمرحلة لتهدئة الصراع بين الأطراف الشيعية ومنع انزلاق البلاد إلى حرب أهلية أخرى، وكانت الطريقة التي انبثقت منها الحكومة تؤشر إلى عدم إقبالها على حرب ضد الفساد بأثر رجعي، وهو أمر مفهوم لناحية شكلها ومرحلتها؛ وهي لم تكتفِ بغض الطرف عن حيتان الفساد كما يُصطلح، بل لم تبذل جهدًا للحد منه، وثمة فرق بين محاسبة الفاسدين وإيقاف الفساد.
اقرأ/ي أيضًا: تصفير العداد.. إعادة الإرهابيين سابقا لنيل الشرعية
اعتقدت الأحزاب أنها تخلصت من مرحلة الصِدام وهي مقبلة على تصفير يُدخِل الجميع في العملية السياسية دون مشكلات، وأجواء مناسبة للمزيد من السرقات والاستثمارات، لذا زاد الفساد وبيع وشراء المناصب وانتشرت الفضائح في الوقت الذي لم تكن تلك الأحزاب تُدرِك أنها أمام لحظة انفجار شعبية، فالتخلّص من الحروب الداخلية وتراجع الخطاب الطائفي والانفتاح على المحيط العربي وزيارة مئات المسؤولين والمستثمرين الخليجيين والأجانب لا يعني الدخول في فترة هدوء تتيح تقاسم الثروات دون صُداع، بل يعني تفرّغ الناس لمتابعة حقوقهم أيضًا، وهذا ما لم تفهمه السلطة لقصر نظرها ومحدودية ذكائها.
مقاربات
اختصارًا للأحداث التالية التي كُتب وكتبنا عنها الكثير، وبقفزة إلى حكومة مصطفى الكاظمي، يُمكِن صُنع بعض المقاربات للخروج بتوقعات أو احتمالات. لقد نشأ صراع وصل ذروته ثم خمد تحت الرماد بتفاهم أدى إلى وصول عبد المهدي إلى الحكم؛ بالمقابل، كان هناك صراع على الأرض أدى إلى تفاهم أوصل الكاظمي إلى الحكم. إذن هناك صراعان، لكنهما يختلفان عن بعضهما، فالأول كان بين كتلة انتخابية تمتلك جناحًا مسلحًا وقاعدة شعبية فعّالة، وكتل انتخابية تمتلك أجنحة مسلحة، وتوابعهما. أما الثاني فقد حَمَل شيئًا من الصراع القديم توقف بعد عملية المطار مباشرةً، لكن العامل الرئيس المحرّك له هو الشارع المنتفض.
مقاربة أخرى يُمكن الإشارة إليها، هي أن الصراع الذي أنتج حكومة عبد المهدي كخيار ثالث بين الخيارين أمكن إخماده بعض الوقت لوجود رأس ماسك لكل طرف؛ لكن الصراع بين الشارع والأحزاب المهيمنة، أدى إلى سفك الدماء وأنتج الكاظمي، ولا يمكن إخماده بسهولة كما أظن.
يعتقد الشارع المنتفض أن تلك الأحزاب مسؤولة عن قتله وإجهاض ثورته، وأن الكاظمي هو ابن العملية السياسية ونتاج توافق الكتل النيابية، فيما تعتقد الأحزاب أن الشارع ـ وبمؤامرة خارجية ـ أجبرها على القبول بالكاظمي الذي كانت تصفه بالعميل وتتوعد بمحاسبته، بل أن وسم #مصطفى الكاظمي خائن القادة تصدّر "ترند" تويتر ليلة تسريب ترشيحه. هناك حقد كامن في قلوب الطرفين سيؤثر على عملية التصفير إن بدأت.
واجه عبد المهدي تحديات أسهل بكثير من الحالية، لكنها أكثر ضبابية، أما الكاظمي فيواجه تحديات أكبر بكثير لكنها أكثر وضوحًا، وكونها صعبة وواضحة فتحتاج إلى جرأة ومجازفة كبيرة بقرارات وأفعال مختصرة ومؤثرة في ذات الوقت.
الملفات المطروحة على طاولة الكاظمي هي من جاءت به، وهذا اختلاف من المهم إدراكه لناحية مَهام الحكومتين وإمكانية الإقدام على الأفعال
كان السبب المباشر لمجيء عبد المهدي هو حل مشكلة سياسية تعقدت بسبب "السلاح السياسي" وغياب الكتلة الكبرى المعنية باختيار المكلّف بتشكيل الحكومة، وليس لمواجهة أزمات مُحددة تستدعي وجوده. حُلَّت هذه المشكلة بمجرد التصويت على وزارته، وطفحت مباشرةً التقرحات الموجودة تحت جلد المشكلة السياسية. ولهذه المعطيات تحديدًا قُلنا إن تحدياته سهلة لكنها ضبابية؛ أما الكاظمي، فقد جاء ليحل مشكلات عديدة لا تنتهي بمجرد وصوله، بل أن الملفات المطروحة على طاولته هي من جاءت به، وهذا اختلاف من المهم إدراكه لناحية مَهام الحكومتين وإمكانية الإقدام على الأفعال.
ملفات واحتمالات
أمام الكاظمي خمسة ملفات متفاوتة الأهمية لا يمكن تجاوزها: وباء كورونا، تهديد الجماعات الإرهابية، الانهيار الاقتصادي، الاشتباك الأميركي الإيراني، ومطالب المتظاهرين. وهي عُقدٌ ومعضلات لم تواجه سلفه أثناء تسلمه مهام رئاسة مجلس الوزراء. وبتجاوز ملف الوباء المرتبط بالعالم أجمع، يرتبط الملف الثاني والثالث والرابع بشكلٍ مباشر وغير مباشر بالحوار الاستراتيجي المزمع انطلاقه بين العراق والولايات المتحدة في شهر حزيران/يونيو المقبل، وبالنتيجة، سيؤثر على الملف الخامس.
اقرأ/ي أيضًا: رسالة إلى القوى الشيعية.. دعوة لركوب الموجة!
تتصدر الملفات الخمسة أولويات الحكومة الجديدة وهي صعبة للغاية وتحتاج إلى دعم داخلي وخارجي حقيقي، لكنها أكثر تعقيدًا من العبارات التي تُردد على ألسن السياسيين "يجب دعم الحكومة.."، فحين تعلن الولايات المتحدة دعمها للعراق سيكون هناك مقابل لذلك، والمقابل قد لا يُرضي إيران وحلفائها، وما يُرضيها سيمنع دعم الأميركيين ويُفاقم أزمات الداخل، والتوافق بينهما لم يُسفر مرةً عن نتائج مُرضية للمجتمع، والنتائج المرضية للأخير ستطيح برؤوس كبيرة. إنها معادلة معقّدة ومتشابكة.
هناك طرفان داخليان فاعلان يراقبان ويترقبان تحركات الكاظمي: الأحزاب التي ساندت الحكومة السابقة، وهي رغم تصويتها لا تشعر بالارتياح له؛ لكنها تأمل تجاوز الملفات التي تهدد سلطتها هي، وإعادة تطبيع العملية السياسية مع الشارع. والأخير هو الفاعل الثاني، الذي لن يقتنع بالتطبيع دون ضربات حقيقية تلك الأحزاب. وقد صعّبت على نفسها مَهمة التطبيع التي كانت بمتناول اليد في حقبة عبد المهدي، ويُمكن التحكم بنسبة التضحيات المقدمة في سبيلها، أما الآن فهي بيد الكاظمي وتستلزم إيذائها دون ضامن!
خارجيًا، تلوح في الأفق بوادر هدنة بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران في العراق على أقل تقدير، وبتأجيل الدخول في تفاصيل الصراع الخارجي واحتمالاته، وبتأثير منه، سنكون أمام ثلاثة احتمالات على صعيد الصراع الداخلي: يوجهُ الكاظمي ضربة قوية للأحزاب بملفي السلاح والفساد، وسيكون تكرار الحالة اليمنية مرجحًا هنا. أو يوجه ضربة خفيفة يُمكن للأحزاب استيعابها عبر التضحية بالقليل من أجل تمشية الأمور. أو ألّا يفعل شيئًا، ويتم تجاهل الشارع وإلهائه ببعض الاستعراضات الإعلامية.. وخطابات الرئيس الجديد تحمل الاتجاهين معًا: عدم استثارة القوى السياسية قبل المسك بزمام الأمور ثم الانقضاض عليها، أو إنهاء انتفاضة تشرين بمطالبها الصِدامية.
لا يوجد في حديثنا تضخيم للطرف الشعبي المتمثل بالشارع المنتفض الذي أثبت قوته وقدرته على الصمود بوجه القمع الوحشي، ولتعليل سبب التركيز على هذا العامل لا بد من العودة إلى المقاربات مرة أخرى، فالكاظمي ليس في معركة (حتى الآن) مع تنظيم مسلح يحتل مساحة شاسعة من العراق، بالتالي فأن المساحة التي تحرّك العبادي داخلها في صنع التوازنات الخارجية وإغفال الشارع ومطالبه الإصلاحية غير متوفرة، كما أن الهدوء النسبي والخزينة المالية المُقنعة والوضع الصحي والأمني والاجتماعي المستقر نسبيًا في بداية مرحلة عبد المهدي غير متوفر الآن وإن توفر السياسي لاحقًا.
الهدوء النسبي والخزينة المالية المُقنعة والوضع الصحي والأمني والاجتماعي المستقر نسبيًا في بداية مرحلة عبد المهدي غير متوفر الآن
لذا، ستكون حكومة الكاظمي ملزمة أن تخوض معركة الملفات الخمسة في ظل مراقَبة كبيرة من الشارع أكثر دقة وحزمًا مما كانت مع أية حكومة قبلها، ويُمكن للاحتمال الثاني (ضربات خفيفة تستوعبها الأحزاب) مع نجاح نسبي في حل الملفات الأربعة الراهنة أن يؤدي إلى الشروع بتصفير العداد وتطبيع تدريجي للعملية السياسية مع الشارع، والمفارقة أن التكليف كان في 9 نيسان/أبريل، ذكرى احتلال العراق وهدم مؤسساته والبدء من الصفر.
اقرأ/ي أيضًا: