27-فبراير-2020

فتح أبناء تشرين أفق التفكير والحلم بدولة وطنية حديثة في العراق (Getty)

كالعديد من البلدان العربية التي استقيظت مؤخرًا على مفاهيم الدولة الوطنية ذات السيادة والحدود، عاش العراق حالةً من التشتت في هوية الدولة، بين الهوية المحلية والاشتراكية والقومية العروبية والإسلامية، ذلك وأن الهويات التي تأخذ طابعها من السلطة الحاكمة، تُفرض من أعلى نحو مجتمع متعدد القوميات والطوائف والتوجهات.

فَتح إسقاط نظام صدام حسين عبر الاحتلال الأمريكي، الباب للجروح والتقرحات المتجذرة في هوية المجتمع بمكوناته لتظهر طافحة بعد أن كانت مخفية تحت ثياب النظام الديكتاتوري

عاشَ شيعةُ العراق تاريخًا مليئًا بالتناقضات التي انعكست لاحقًا على طبيعة هذه الطائفة القلقة حين استلمت زمام السلطة؛ ورغم أن نخب وأدباء وشيوخ ومراجع الطائفة ساهموا بشكلٍ كبير في تأسيس تأريخ وطني، وأشعلوا ثورات، وثقّفوا لمبادئ السيادة والوطنية والتحرر؛ لكن على رغم ذلك، أمضت هذه الطائفة عقودًا من الزمن وهي في محل تشكيك بوطنيتها من قبل السلطة، وتوجس من انتمائاتها العابرة للحدود، زاد الطين بلّة صعود نجم المرشد الأعلى الإيراني روح الله الخميني وسيطرته على زمام السلطة بعد ثورة 1979، لما يحمله من أفكار راديكالية لا تُقحم الدين بالدولة فحسب، بل تجعل من ممثل الدين ـ الولي الفقيه ـ رئيسًا للمجالس التي تدير الدولة، على النقيض من حوزة النجف التقليدية التي تعنى بأمور البشر الدينية والدنيوية على نطاق "خاص"، لا على النطاق العام.

اقرأ/ي أيضًا: المقاومة والسلطة.. معركة النفور المتبادل

فَتح إسقاط نظام صدام حسين عبر الاحتلال الأمريكي، الباب للجروح والتقرحات المتجذرة في هوية المجتمع بمكوناته، لتظهر طافحة بعد أن كانت مخفية تحت ثياب النظام الديكتاتوري البالية، وحكم القبضة الأمنية، وآيديولوجيا التخوين والإعدامات وقمع الأصوات المعارضة وإعلام الرأي الواحد.

أول امتحان واجهته القوى الشيعية التي عاشت في كنف المعارضة عقودًا من الزمان، هو التوازن داخليًا، بين قيادة الدولة وفق آيديولوجيا المذهب المندفعة بفعل القمع، وفرض ذلك على السُنّة بعد عقود من "التضييق على الشعائر"، وتملّق الكرد وإفساح المجال للقيادات الكردية لابتزازهم، ثم التوازن خارجيًا بين الولايات المتحدة الراعي الرسمي الأول للنظام لحظة 2003، وبين إيران، الحاضن الخارجي لهم قبالة التمرّد السني وتفشي الإرهاب وسيطرة الرعب على مناطق شاسعة من البلاد أهمها العاصمة، والضعف ـ أو التهاون ـ الأمريكي أمام السلاح الموجه ضد الدولة الناشئة.

بدت التحديات أكبر من "حلم" بناء دولة ديمقراطية، على افتراض أن هناك إرادة حقيقية للوصول إلى هذا الحلم، ونشأ بدلًا من الدولة وأجهزتها الأمنية المحتكرة للعنف، ميليشيات شيعية مسلحة تحولت من مقاوِمة للاحتلال إلى مشارِكة في الحرب الطائفية عامي 2006 ـ 2007، بالضد من تنظيم القاعدة والفصائل السنية المتشددة، بعد أن كانت تلك الميليشيات متحالفة نظريًا وعمليًا مع مثيلاتها السنية بالضد من القوات الأمريكية.

أولى ملامح سلطة الدولة كانت على يد أكثر الرؤساء سببًا في تفجّر الفتنة لاحقًا. نتحدث عن عملية "صولة الفرسان" التي انطلقت في عهد رئيس الوزراء آنذاك نوري المالكي بمساعدة أمريكية للقضاء على "جيش المهدي"، الميليشيا الأهم في ذلك الوقت، التي ساعدت ـ عمليًا ـ في تثبيت السلطة التي يحكمها المالكي. بدت تلك المفارقة تناقضًا؛ لكنها أنشأت افتراضًا بنزوع القوى الشيعية إلى حكم الدولة والقانون والدستور، سرعان ما تبخّر ذلك الافتراض الذي لاقى ترحابًا اجتماعيًا ودوليًا آنذاك، بزيادة وتيرة الاحتقان الطائفي سياسيًا وأمنيًا وإعلاميًا، واندلاع احتجاجات شعبية في المناطق السنية، بالإضافة إلى احتقان بارز بين حكومة بغداد وإقليم كردستان.

وبين محاولات من شيعة السلطة لرص الصفوف بالتقوقع ضد المكونات الأخرى عبر خطاب الكراهية، وموجات الاعتقال التي تطال مناطق سنية، مع الانسحاب الأمريكي التام نهاية عام 2011، والضربات الإرهابية بالمفخخات والأحزمة والعبوات التي استهدفت مناطق شيعية مكتظة بالسكان، ضاعت البوصلة (وافتراض حكم الدولة) حتى وصلنا إلى حالة 2014 والانهيار الكبير.

القوى السياسية الشيعية أفرزت المكون الشيعي ذاته بعد الفشل السياسي والاقتصادي، إلى جمهور مؤمن مطيع، وجمهور (جوكري) أمريكي مدفوع الثمن

مقتدى الصدر وتياره، أكبر المتهمين بالحرب الطائفية، هو أكثر المتعلمين من تجربة الاقتتال الطائفي، بدا مختلفًا عن أغلب أقرانه في خطابه الموجه للسنة وللاعتصامات في المناطق الغربية، وكذلك بعد سقوط محافظات بيد داعش، واستطاعت سرايا السلام أن تكون الفصيل الأكثر مقبولية بين الأوساط السنية بحكم التجربة في سامراء. لكن أقرانه لم يتعلموا الدرس.

اقرأ/ي أيضًا: ديمقراطية التوافق.. رؤساء بلا أب ومكلف بـ"التواثي"

فيما كان أمراء الحرب وقادة الفصائل والأحزاب الشيعية يوغلون بخطاب الكراهية الطائفي، بدأ حراك "مدني" في الشارع يحمل ضمنًا خطابًا رافضًا لـ "العسكرة المذهبية" والانحياز الفاضح لإيران. استغل الصدر تلك الحالة وأعطاها بجماهيره الواسعة جرعة دسمة تؤكد الهوية الوطنية والوحدة والسيادة والقرار العراقي، ساعده بذلك وجود حيدر العبادي في رئاسة الوزراء، بتأكيده هو الآخر على المبادئ المذكورة، وتشذيبه للغة الدولة وأجهزتها الأمنية والإعلامية، صاحَب الرجلين انفتاح على الدول العربية والخليجية تحديدًا، قابلَ ذلك الانفتاح حملات تخوين وتسقيط من قبل ما بات يُعرف بـ "الإعلام الولائي" ضد الصدر والعبادي، واتهامهما بـ "الانبطاح" للمكون الآخر، ولأن نظرة أولئك لا تتعدى أرنبة الأُذن فأنهم لم يتوقعوا أن الشرخ الذي أحدثه ثنائي الصدر ـ العبادي في المنظومة الدعائية للجوق السياسي الشيعي أثناء الحرب على التنظيم سيجبرهم على الجلوس والتحالف (أو الانبطاح بتعبيرهم) مع قيادات ذلك المكون، بل ذهبوا أبعد من ذلك إلى التعاون مع أشد الطائفيين في الجانب الآخر للفوز برئاسة الوزراء بعيدًا عن الصدر والعبادي، وكذا مع القيادات الكردية التي اتهموها برعاية "داعش" والتآمر على الشيعة، لكنهم اضطروا لاحقًا للتحالف مع التيار الصدري والمشاركة معًا في اختيار رئيس وزراء "توافقي"، فخسروا بذلك ثقة الكثير من جماهيرهم التي صنعوها بالخطاب الطائفي ضد قادة السنة أو الخطاب التخويني ضد قادة الشيعة، ولم يفلحوا بالرئاسة منفردين حتى جاءت تشرين.

بدأت القوى الشيعية مشوارها السياسي بالاعتكاز على الكرد في ظل رفض سني للعملية السياسية، ثم أدت هذه العلاقة المشوّهة إلى استفتاء الانفصال في الإقليم وأحداث كركوك، ثم بعد أن خرجت الجماهير الشيعية إلى الشارع استخدمت هذه القوى ذات خطاب التخوين تجاه الجماهير المنتفضة، واتهموها بالعمالة لأمريكا والسعودية وإسرائيل رغم أنها حملت أسمى الشعارات الوطنية ومظاهر السلمية والثبات. وبعد تكليف محمد علاوي لرئاسة الوزراء، أصبحت تلك القوى في مواجهة الشارع الرافض للطريقة التي جاء بها المكلّف، وفي مواجهة القوى الكردية الحليف الأساس في العملية السياسية، وفي مواجهة القوى السنية، الشريك الجديد، بعد أن "زال ماء الوجه" بهذه الشراكة.

إن العمود الأساس في سياسة القوى الشيعية منذ 2003 حتى الآن هو العمل بـ "الأضداد"، الضد السني (السياسي والاجتماعي)، الضد الشيعي (السياسي)، الضد الكردي، حتى وصل الحال إلى الضد الشيعي (الشعبي) بعد فشلها في التصدي لانتفاضة تشرين بالقمع والتخوين والتنكيل والخطف والاعتقالات وتشويه سمعة وشرف المتظاهرين. أصبحوا يواجهون الدول الخارجية ومكونات المجتمع التي فرزوها لأغراض التحشيد، ثم فرزوا المكون الشيعي ذاته بعد الفشل السياسي والاقتصادي، إلى جمهور مؤمن مطيع، وجمهور (جوكري) أمريكي مدفوع الثمن، ولا ندري إلى أي نقطة تريد القوى الشيعية الوصول بعملية التفتيت اللا منتهية هذه عبر سياسة العمل بالأضداد "العشوائية"؟

من هذا الاستعراض الذي يبدو مطوّلًا ومختزلًا للسنوات السابقة، بقي أن نُذكّر هذه القوى التي توصف بحكم العملية السياسية ممثلةً للمكون الأكبر في العراق، بأن جزءًا منها كان يحمل مشروع الأقلمة والإقليم الشيعي؛ لكن السيطرة على الدولة شيئًا فشيئًا جعلته مشروعًا خاسرًا بالمقارنة مع حكم العراق مركزيًا، وفي ذات الوقت فأنه سيكون مشروعًا للمكونات الأخرى (السنية تحديدًا) في الوقت الذي لن تجد القوى الشيعية حاضنةً شعبيةً لأي مشاريع تجزيئية تُسعف سلطتهم بعد فقدانهم ثقة المواطن في الوسط والجنوب بفضل السياسات المتخبطة وغير المدروسة، والإيغال بالفساد والطائفية والمحسوبية والقتل والتنكيل، والابتعاد عن مفاهيم الدولة والسيادة وحكم الشعب.

أيها السياسيون الشيعة، قدّم لكم أبناء تشرين العظماء دروسًا في تلك المفاهيم، وفتحوا لنا جميعًا أفق التفكير والحلم بدولة وطنية حديثة تتخذ من شعار "النهضة" بكل جوانبها أساسًا للعمل على أرضية المواطنة والمصالح العليا للبلاد كمكيال للعلاقات مع الدول الأخرى، مع خطاب متوازن من المرجعية الدينية في النجف قد يُعينكم على تغيير أنفسكم قبل الشروع بصفحة جديدة.

فتح أبناء تشرين أفق التفكير والحلم بدولة وطنية حديثة تتخذ من شعار "النهضة" بكل جوانبها أساسًا للعمل على أرضية المواطنة 

لقد فقدتم الكثير من عوامل القوة في إطار سعيكم نحو البقاء في الحكم، أضعتم فرصة "تصفير العداد" والشروع بعملية التطبيع التي افترضنا أنكم ذاهبون نحوها، وخسرتم العديد من الموجات النافعة وطنيًا، ولم تصحوا رغم اللطمات التي وجهها شبابكم المحتج في السنوات السابقة، فهذه الجارة الحامية تتعرض لهزات متلاحقة، وهذه الولايات المتحدة التي جاءت بكم تهددكم بالعقوبات تارةً وبالقتل تارةً أخرى، فهل تأملون أن بالإمكان القفز من السفينة الغارقة؟

اقرأ/ي أيضًا: الثابت والمتحوّل في احتجاجاتنا: دروس للمشرق العربي

سبقتكم الأجيال الجديدة ثقافةً ووعيًا ووطنيةً، وتبنّت مفاهيم الوحدة والمواطنة والديمقراطية من الأسفل، فيما أنتم طامسو القلب في وحل المحاصصة والطائفية والفساد من الأعلى، فقد كانوا هم النخب وأنتم الجماهير.

إن كانت النفوس قد استفحلت بالفساد وأوغلت بالدماء وتجبّرت على حتمية أن "الشعب مصدر السلطات" فعليكم الانقلاب على تلك النفس الأمّارة بالسوء، فذلك سبيل النجاة حتى بالمفهوم الديني الذي تدّعوه. النجاةُ بالاعتماد على القوّة الشعبية وتعزيز المناعة الداخلية.

كيف الطريق؟ إتّبعوا جماهيركم وانحنوا لتضحياتهم ولبّوا مطالبهم وإتّبعوا طريقهم، تعلّموا منهم الثبات والكرامة والصبر والإصرار والتكاتف وذوبان الفروق الطائفية والقومية والطبقية في ساحات احتجاجهم، فَهُم البوصلة التي بإمكانكم أن تنقذوا العراق وأنفسكم عن طريقها. غادِروا خطاب الأضداد والتخوين والشعبوية، تخلّوا عن عجرفتكم وتشبّثكم بالجاه والسلطة، ولا تخسروا الموجة التشرينية "الوطنية" الأكبر والأعظم والأنبل، فتلك الفرصة الأخيرة إن كنتم تعلمون.

اركبوا موجة تشرين، تَسلَموا ونَسلَم.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

العراق.. مآلات الثورة

الرهان المستحيل