15-فبراير-2020

أفضل وسيلة مقنعة لخطاب المعارضة، هو استحضار النموذج المقنع (Getty)

 كلما تعالت أصوات المعارضة، تظهر معها قوّة شعبوية مخيفة تطالب بالقصاص أو القضاء على هذه الصيحات من قبل السلطة  التي تدعمها الجماعات الدينية. خصوصًا أن الجماعات الدينية ليست أقليّة، وإنما تمارس سلطتها السياسية بأريحية وبقوة الأغلبية التي تدعمها؛ فهي تمتلك سلطة اجتماعية مقاومة لكل أشكال التغيير التي تهدد حياتها الوجدانية، ذلك أن البقاء على ما كان أفضل ممّا سيكون بنظرها.

الحوار النقدي الذي يتناول مقتدى الصدر، ليس بوصفه رجل دين، وإنما بوصفه قائدًا سياسيًا يشرف على عملية توجيه نخبته السياسية وجمهوره الغفير

وبهذه الطريقة يدخل المجتمع في عملية صراع غير متكافئة كمًّا ونوعًا، ثم تنحسر فيه الأصوات العالية، وتتعرّض الحياة الاجتماعية والسياسية إلى رِدّة عنيفة. غير أن أشكال المقاومة تبقى مستمّرة؛ فهي تصاب بالخمول حينًا والحيوية والنشاط حينًا آخر. ثمّة حقيقة بارزة  للعيان، وهي انتصار الآيديولوجيا المهيمنة، وهي من تحدد الحقيقة والأولويات طبقًا لممارسة السلطة التي تحددها بالاستناد على التأييد الشعبي الواسع الذي تمتلكه وتهمين على وجدانه كليًّا.

اقرأ/ي أيضًا: رحلة التقدم.. بين المقدس والعلماني

فسواء كانت هذه الآيديلوجية دينية أو قومية أو حزبية، فهي في نهاية المطاف تخلق قوة تبريرية توازي قوة المعارضة وتتفوق عليها بآليات الإكراه. وفي العراق تهيمن منظومة الأحزاب الدينية على المشهد السياسي. ومؤكد أن الدين يخضع للمناخ الثقافي السائد ويتأثر بالعمق الحضاري لهذا البلد أو ذاك كما ذكرناه في مقالة سابقة (رحلة التقدم.. بين المقدس والعلماني)، فهذه المقالة لا تهاجم المتدينين بوصفهم يتعبدون بالدين بل بوصفهم فاعلين سياسيين. والأخطر من ذلك حينما يبررون أفعالهم السياسية بالورع الديني!

 من المعلوم أينما وُجِدَت السلطة وُجِدَت معها المقاومة، ويبدو أن العلاقة بينهما علاقة تضايف، أي يرتبط وجود أحدهما بوجود الآخر. فلهذا ثمّة عدد غير قليل من الجمهور المتعلّم يعتقد بضرورة الاستمرارية بالكتابة النقدية عن التنظيمات الدينية (باعتباره أحد أشكال المقاومة)، بوصفها جماعات فاعلة سياسيًا من خلال انخراطها في السلطة. فالحوار النقدي الذي يتناول السيد مقتدى الصدر، على سبيل المثال، ليس بوصفه رجل دين، وإنما بوصفه قائدًا سياسيًا يشرف على عملية توجيه نخبته السياسية وجمهوره الغفير. فتناوله يأتي من زاوية محددة، وهي مراقبة أدائه السياسي فحسب. وعند ذاك تجري عملية نقدية للمارسات السياسية للسيد الصدر وأين مكامن الخطأ في قراراته. فالتقويم هنا ليس لخطابه الديني وإنما لممارسته السياسية. (وتجدر الإشارة هنا: حينما نتكلّم عن نقد الممارسة السياسية، لا نقصد بها الحفلات المجانية التي تقام في مواقع التواصل الاجتماعي).

تكتفي الأقلام الناقدة بالسكوت عن نقد المرجعيات الدينية في كثير من الأحيان مقارنة بتناول السيد مقتدى الصدر، أعني أن كفة تناول الصدر أكبر منها مقارنة بغيره من مراجع الدين، رغم إننا نقر، أن بعض الخصوم لم يرتقِ خطابهم "النقدي" لمستوىً مشجّع. فنقع في دائرة الغضب المتبادل بين الطرفين. إن نقد المرجعيات الدينية، على وجه العموم، يراد منه، بالأعمّ الأغلب، ما يسمّى بـ"نقد الفكر الديني"، أمّا ما تبقّى فهو نقد يتناول المرجعيات بوصفها فاعلة سياسيًا في المشهد السياسي. رغم ذلك لا نجد خطابًا يتجرأ بالنقد السافر تجاه هذه المرجعيات، صَونًا لمكانتها الروحية من جهة، ولعدم انخراطها المباشر في السياسة من جهة، رغم عدم اتفاق الكثير حول هذه الحقيقة، أعني حقيقة عدم انخراطها في السياسة.

 طبقًا لسجل الأولويات الدينية، تحتل العقيدة في وجدان المؤمنين الهمّ الأقصى مقارنة بالدولة ومؤسساتها (في العراق على وجه الخصوص). والنقاش بين الديني والدنيوي بدون استحضار النموذج  الدنيوي المقنع، يشبه حوار الطرشان. بمعنى، ما لم يوجد نموذج بديل يحل محل المؤسسات القديمة، فسيكون الكلام مضيعة للوقت. إن الجماعات الدينية حتى بوصفها جماعات فاعلة سياسيًا، تتعرض للضيق الشديد فيما لو تعرضت للنقد، وستدافع عن مكتسباتها بأي شكل من أشكال التبرير الديني، لأنها ليست معنية بالرد طبقًا لممارساتها السياسية، بقدر ما هي معنية بالدفاع عن وجودها العقائدي. مثلًا أن الصدريين يخطئون في تشخيص الأمور، ويخلطون بين الديني والدنيوي في بعض الأحيان حينما يدافعون عن شخص السيد الصدر بوصفه رجل دين. والحقيقة إن الممارسة السياسية هي نشاط دنيوي محض لا علاقة له بالتشريعات الفقهية، بمعنى أن التشريعات القانونية ليست تشريعات فقهاء، فما يوجد هو سلطة تنفيذية تسن القوانين الدنيوية. فمن يتصدى للعمل السياسي سيكون معنيًا بردود الأفعال الدنيوية التي تحاول تقويم عمله السياسي.

إن النقد جزء من عملية الإصلاح، فلا حركة إصلاح حقيقي من دون غربلة وتمحيص، وما عدا ذلك سيتحول الإصلاح إلى سلطة قمعية جائرة

 إن أفضل وسيلة مقنعة لخطاب المعارضة، هو استحضار النموذج  المقنع، فهو أفضل بكثير من الجدل غير المجدي، وهذا النموذج المفترض هو الممارسة السياسية. إن معيار الصحة والخطأ ليس بالحجج المنطقية المقنعة، ذلك أن الإطار النظري لا ينسجم في أحيان كثيرة مع السلوك العملي فيحدث التناقض والالتباس. فالسياسة ليست ممارسة ذهنية مجردة، وبلغة فلسفية: إنها لا تنتمي إلى عالم الإمكان، وإنما إلى عالم العيان، وبلغة الدين: إنها لا تنتمي إلى عالم الغيب، وإنما تنتمي إلى عالم الشهادة، فمعيار الصحة في الصراع السياسي هي الممارسة بالتحديد. لذا أن تناول مقتدى الصدر من قبل معارضيه هو من هذا المنطلق، ولقد سمعنا منه أكثر من مرّة تقبله وسِعَة صدره للنقد، وهذا الأخير جزء من عملية الإصلاح، فلا حركة إصلاح حقيقي من دون غربلة وتمحيص، وما عدا ذلك سيتحول الإصلاح إلى سلطة قمعية جائرة.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

عن الهوية والاختلاف ومصيرنا المشترك

مقتدى الصدر.. قبل نفاد الوقت