إن الهوية تمنحنا الاستمرارية والبقاء، وتعمّق فينا روح الانتماء والمصير المشترك. والاستمرارية والبقاء نابعة مما تمنحنا إيّاه الهوية من شعور بالوجود. وهذا الأخير لا يقتصر على الهويات الجماعية؛ ذلك أن الشعور بالوجود خط متصل يربط جميع الكائنات، فسواء كانت الهوية جماعية أم فردية، لا تختلف عن المواصفات التي سقناها سوى بالدرجة. ومن المؤكد أن الهويات الفرعية القائمة على سرديات دينية وطائفية أو عرقية تمنح معتنقيها روح الانتماء الجماعي، غير أن معضلتها الكبيرة، هي هذه النظرة الثنائية الحادة التي تصنّف الناس طبقًا لأدبياتها؛ فهذا خير وهذا شر، وهذا مؤمن وذلك كافر، هذا أبيض وذلك أسود، وهكذا.
الأساس الديمقراطي المتين الذي أسسه شباب تشرين بدمائهم، سيؤسس ويعمق من مفهوم الاختلاف والتعددية
والمعضلة الثانية التي تصادف هذه الهويات، هي أنها تجري بالضد من مفهوم الدولة الحديثة. إذ يصعب العيش المشترك طبقًا لهذه السرديات الإقصائية، فضلًا عن الحميميات العابرة للحدود التي تنسف فكرة الدولة من أساسها. أكثر من ذلك، فهي لا تعطي وزنًا للاعتراف العام، ولمجرد شعورها بالخطر الوشيك تتخذ من العنف وسيلة وحيدة لتصفية خصومها. يصعب على هذه الهوية النظر إلى الآخر داخل فضاء التعددية والتنوع والاختلاف والتفاعل والتعاون. إنها تنظر إلى الآخر بطريقة تضامنية عابرة: متى ما تم تصفية حياته من أجلها وترسيخ وجودها فهو في حل من إقصائها، لكن إن جرى العكس فسيمحى فورًا من قائمة الأصدقاء. وهذا ما شاهدناه، مثلًا، في انتفاضة تشرين؛ فأولاد الأمس والإخوان، تحولوا اليوم إلى أعداء تنبغي تصفيتهم.
اقرأ/ي أيضًا: "الأنا الوطنية" التي صنعها هذا الجيل
رغم أن هذه الهويات الإقصائية تميل إلى النظر إلى نفسها على أنها متشابهة ويجمعها نفس المصير، غير أن التنافر والتشرذم يمكن أن يعم داخل الهوية نفسها. لقد أفرزت الهوية الشيعية سردية سياسية بعد سقوط البعث قائمة على التظلم والشكوى ومعارضة سلطة البعث، لكن سرعان ما أثبتت في سلوكها السياسي، خلال ستة عشر عامًا من الفوضى، نها لا تختلف عن السابقين في كفاحها الضاري للدفاع عن مكتسباتها السحرية، فقامت بقتل أكثر من 500 إنسان عراقي، وجرحت أكثر من 20 ألف، فضلًا عن المختطفين، والغالبية العظمى من الشهداء والجرحى تجمعهم هوية مذهبية واحدة مع السلطة السياسية.
إن الأساس الديمقراطي المتين الذي أسسه شباب تشرين بدمائهم، سيؤسس ويعمق من مفهوم الاختلاف والتعددية. ذلك أن معظم الشعب العراقي بعد هذه الأحداث الدامية اتضح له، أن الهويات الطائفية يمكنها أن تفرّخ هويات داخلها لا تكف عن التناحر والتنافر فيما بينها؛ إذ يمكن للهوية الشيعية أن توّلد هويات داخلها، منها ما هو عائلي، ومنها ما هو عسكري، ومنها ما هو إقليمي. صحيح أنها تشترك في هوية جامعة وتتمسك بسرديات هذه الهوية، لكن السلوك العام يجري بالضد من ذلك تمامًا، ويشير إلى وجود تكتلات ترسم لها ملامح مغايرة للهوية الجامعة، أو يمكن القول إنه اختلاف داخل الهوية الواحدة.
المهم في الأمر، لقد أدرك العراقيون أن ما من هوية يمكنها أن تجمعهم غير المواطنة، فبخلافها يحل البديل القاتل، وهو الطائفية السياسية. أدركت الأجيال الجديدة في العراق، إن أبناء المحافظات الغربية والجنوبية والوسطى لا يختلفون من حيث الهموم والمشاكل، فاكتشفوا أن من يمثلوهم في السلطة السياسية أصغر من أن يأتمنوه على مصير العراقيين المشترك.
غير أن التحدي الذي سيواجهنا مستقبلًا هو ترويض العقل على تقبّل فكرة الاختلاف بين الهويات المتباينة. ولا أعني هنا تقبّل فكرة المليشيات كأمر واقع، فهذه الجماعات لا تعترف بمفهوم الدولة على الإطلاق، وإنما أعني الهويات السياسية والاجتماعية، حديثة التشكّل في العراق الجديد، التي تعنون نفسها غالبًا بـ"العَلمانية"، وتحاول شق طريقها لوحدها، لكن بلا أداء سياسي مقنع، وبدون رؤية موحدة، ولا تكاد تتفق على شيء، ولا زالت في طور الخلاف بدلًا من الاختلاف.
أدرك العراقيون أن ما من هوية يمكنها أن تجمعهم غير المواطنة، فبخلافها يحل البديل القاتل، وهو الطائفية السياسية
والغريب أنها أضحت مصدر تندر من قبل الهويات الدينية، ليس لأنها علمانية (فهذه اللعبة المحببة للجماعات الدينية)، بل لرفضها فكرة الاختلاف، ذلك أنها لم تؤطر اختلافها مع هذه الجماعات بإطار عقلاني، وظلّت مشغولة بالتفسيرات الدينية، والتعالي على الجماعات الدينية من ذوي التعليم المتدني، ولم تخرج من دائرة التهكّم والازدراء، الأمر الذي أضعف موقفها وقدرتها على الإقناع، ولم تخرج من طور الفردية الضيقة. ربما لأنها ردة فعل تجاه الجماعات الدينية ولدورها الإقصائي، وربما لأنها حديثة العهد بالممارسة السياسية، أو تحاول جاهدة بتمييز نفسها عن باقي الهويات الأخرى، لكن بلا جدوى حتى هذه اللحظة. وعلى الرغم من شكاواها المستمرة من ابتلاع الجماعات الدينية لفعالياتها الاحتجاجية، لكنها لا تحرك ساكنًا ولا تجترح بدائل تضمن لها ديمومة عملها السياسي، ولا تجيد اللعبة التنظيمية حتى هذه اللحظة.
اقرأ/ي أيضًا: انتفاضة تشرين.. جيل اليوم في مواجهة النظام الطائفي
ويبدو أن الوقت سيطول معها لفهم لعبة التنظيم، ولعبة الاختلاف، ليس لأنها إقصائية (فهي لا تملك شيئًا، ولم نجرب أداءها السياسي بعد)، وإنما لضعف تجربتها وقلة خبرتها، تاركةً وراءها جمهورًا نقيًا من الذاكرة الطائفية، ولا يحتاج سوى نخبة تقدمية فاعلة، ترسم له معالم المسار الديمقراطي، وإقناعه بمصيرنا المشترك كعراقيين فقط بمعزل عن هوياتنا الفرعية. ولحين وصول اللحظة المناسبة، وحتى ذلك الحين، تكون الهوية المهيمنة، والتي تحتقر كل أشكال الاختلاف، هي الهوية الطائفية التي تخوض حربًا طاحنة للمحافظة على سلطتها، بينما ينشغل "العلمانيون" بالتصارع في مواقع التواصل الاجتماعي.
اقرأ/ي أيضًا: