لا أجادل عن التغييرات الملموسة التي أحدثتها انتفاضة تشرين، ولا أجادل عن دور المثقف في تحولات الوعي السياسي وتعميقه بين أوساط الشباب، لأنه معدوم من جهة، والضرب بالميت حرام من جهة أخرى! بمعنى أن معظم التناقضات التي مرت بها المسارات المتعرجة للحراك السياسي، وما رافقه من توترات ومخاطر مادية ومعنوية، لم يكن للمثقف دور فيها، باستثناء بعض الناشطين والإعلاميين الذين قادوا عملية الاحتجاج في 2011، مرورًا باحتجاجات 2015، فقد كانوا أقلية عانت الكثير من الصراعات، فلم تستطع بلورة نشاطاتها وتأطيرها على شكل حركة اجتماعية واسعة.
انتهى الحال ببعض المثقفين أن تقتصر همومهم على مراكمة دخلهم الشهري، وما عدا ذلك فهو خارج اهتماماتهم الثقافية والسياسية
وعلى ضوء ما شهدته التجارب الماضية للحراك الاحتجاجي، كانت النتائج مؤلمة، غير أن نقطة قوتها، هي تحريك كرة الثلج، والإسهام، ولو بشكل مرتبك، في بلورة الوعي السياسي لدى الكثير من الأوساط الشعبية. فمن هذه الناحية كان المثقف "يراقب عن كثب" حركة التناقض المعقدة، ثم يهرب إلى مجاميعه الشعرية، أو حلقات السمر في صالوناته المٌحببة، أو ينتهي الحال بالبعض منهم في مكاتب السلطة كـ"مستشار ثقافي"، أو تحتضنه بعض المؤسسات الإعلامية "الكريمة"، فـ"الجوع أبو الكفار" كما يقول مظفر النواب.
اقرأ/ي أيضًا: المثقف العراقي.. من الاستبداد إلى الاحتلال الأمريكي
معنى هذا، إن بعض المثقفين لديهم وعي طبقي، وعادة ما يبحثون عن الأماكن التي توفر لهم ملاذات آمنة ومعيشة جيدة، فهم من هذه الناحية "اشتراكيون" لو تعلق الأمر بحقوقهم، غير أن الأمور تنحرف عن مسارها لو تعلق الأمر بحقوق الآخرين. لقد انتهى الحال بالبعض منهم أن يحصر همومه بمراكمة دخله الشهري فحسب، وما عدا ذلك فهو خارج اهتماماته الثقافية والسياسية، لا يختلف عن أي موظف يعيش حياته الروتينية ويموت بلا أثر يٌذكر.
هذا الوباء الثقافي الذي نعاني منه، ومن باب الإنصاف، لم يصنعه المثقف فحسب، وإنما هو جزء من سياق سياسي وثقافي مضطرب، ساهمت في انتشار عدواه المرضية سلطات القمع السياسي؛ إذ كان المثقف إما داعية حزبي، أو بوق طائفي، أو "مناضل" يكافح من أجل حقوقه العرقية، أو مثقف مرتبط بالخارج لا يعجبه الوضع المتردي، وهو شبه متقاعد عن قضايا شعبه. أما المثقف المستقل، فمكانه المنافي والسجون والقبر!، أو على أقل تقدير، مغمور وغريب وسط شعبه.
ولأن التركة السياسية ثقيلة، كانت بمنزلة الصدمة لبعض المثقفين، ولقد أخذت منهم الحيرة مأخذًا عظيمًا؛ هل يتقرب من الأوساط الشعبية ويحتمل الحسد والنفاق والمؤامرات وتشويه السمعة التي يتعرض لها من زملاءه، أو يتقرب من مؤسسات السلطة، وإن بشكل خجول، ليضمن لنفسه حياة مُنعمة وعيش رغيد ورحلات استجمام صيفية ويتنكر لمسؤولياته باستثناء بعض الإرشادات "الأبوية" التي يسطرها على موقع الشخصي.
لا أعرف مدى مصداقية ردود الأفعال التي أسمعها وأقرأها حول سلبية المثقف، أعني كم هم جادون بقبول المثقف كأحد قادة الرأي العام إن كانوا حقًا صادقين بهذا المطلب. وليس كل ما يقال عن المثقف يندرج في خانة الأقوال الخالدة! لنأخذ بنظر الاعتبار حالات الحسد والغيرة التي يتعرض لها المثقفون، وبنفس الوقت نأخذ الكثير من تذمر الرأي العام تجاه المثقف بنظر الاعتبار. أفضل "حكم" هي التجربة والملاحظة لسلوك المثقفين ونشاطاتهم، وأفضل شاهد يمكننا أن نعثر عليه هو مدى تأثيرهم وحضورهم في الفضاء العام.
يعلم المثقف العراقي أن الشباب المتظاهر منذ مطلع تشرين هم الطبقة الأبعد عن الصالونات الثقافية ومطالعة الكتب والمجلات
ما أعرفه شخصيًا، إن أمام المثقف العراقي فرصة ذهبية لتصحيح المسار؛ لقد وفر له الشباب قاعدة جماهيرية واسعة، وطيف سياسي معارض استطاع أن يخيف السلطات بأيام وجيزة. والمثقف يعلم قبل غيره، أن هؤلاء الشباب هم الطبقة الأبعد عن الصالونات الثقافية ومطالعة الكتب والمجلات، بل أغلبهم ليس له صلة بالثقافة والمثقفين.
اقرأ/ي أيضًا: "لا علمانية ولا دينية".. عراقية هويتها الحقوق!
فبالتالي؛ إن التقرب له وإعادة صياغة الأوضاع وتصحيح بعض المفاهيم، وبلورة الوعي الطبقي داخل أوساط الشباب سيعطي زخمًا أضافيًا للمثقف العراقي ليأخذ دوره الريادي وسط هذه الحركة الاجتماعية الصاعدة. لأنه من المعيب للغاية أن يقوم الشباب بمهمة تعميق الوعي الطبقي فيما ينشغل المثقف بحفلاته الشهيرة بتوقيع كتاب، أو انحسار همومه بزيادة جمهوره الذي يقتني كتبه. كل هذه النشاطات شرعية بلا شك، غير إن خيانة هذه الأجيال والتنكر لها، لن تعادله أي خيانة، والأحداث حبلى بالمفاجأة.
اقرأ/ي أيضًا: