يمكنك أن تجد الكثير من القصص والمشاهد المعبرة في ساحة التحرير، فهي بالعشرات بكل تأكيد. لكن ما لفت نظري، هو هذه الرغبة العميقة في إعلان أقصى درجات التضامن، ذلك أن الناس في وقت الكوارث يميلون إلى التقارب، وإبداء الرغبة العميقة في تقديم العون لبعضهم، فالعراقيون يمتلكون عشرات الأسباب ليتضامنوا فيما بينهم؛ لقد دفعوا أثمانًا باهظةً في زمن الطائفية المرعب، ودفعتهم نخبهم الطائفية إلى حرب أهلية راح ضحيتها آلاف الضحايا، وما أن تنفسوا الصعداء حتى داهمتهم "داعش"، فاحترق الأخضر واليابس وتحطمت ثلاثة محافظات وانهارت بنيتها التحتية. ومن ضمنها محافظة الموصل التي تحكي أطلالها قصة جرح عميق لم يتماثل أهله للشفاء حتى هذه اللحظة.
الظروف التي مرت بالعراق جعلت من التضامن هو الرهان الوحيد على الطائفية السياسية سيئة الصيت، فبخلافه سنصطدم بأهواء طائفية عنيفة، وهيمنة دولية وإقليمية تمزقنا شر ممزق إلى الأبد
مضافًا إلى الجرح، الذي لن يندمل على ما يبدو، وهو قصة نخبة سياسية باعت البلد بأثمانٍ رخيصة، واتخذت من الطائفية السياسية نموذجًا "مثاليًا" لضمان هيمنة الأغلبية الطائفية. تحاول هذه النخب السياسية وتكافح لتقسيم البلد ديموغرافيًا، وتحويله إلى ثلاثة "شعوب": شيعية، سنية، وكردية، على الرغم من أنها تقف ضد التقسيم من الناحية الشكلية.
اقرأ/ي أيضًا: انتفاضة تشرين.. فرصة لتقييم الذات
في غضون ذلك، وما تلاه من فجائع مرّت على الشعب العراقي، وصل التراكم إلى أقصاه، وبعد أن اتضحت المسرحية البائسة لهذه النخب الفاسدة، لم يبقَ أمام العراقيين سوى الانتفاض؛ ذلك أنهم جربوا الفرقة والتنابز فيما بينهم، وأتضح أن دمائهم رخيصة أيًا كانت جهتهم السياسية وهويتهم المذهبية! وتأكّد للعراقيين، أن البديل عن المواطنة هو الطائفية السياسية، وهذه الأخيرة تعني ما تعنيه، أن يستحوذ الفاسدون على المغانم ونهب ثروات البلد باسم الطائفة والعشيرة والعرق، فيما يكابد الشعب معاناة لا تطاق.
والناظر إلى الشعب العراقي بكل أطيافه وتنوعاته، سيجد ثمّة مشترك واحد ينطبق عليهم بلا استثناء: الظلم والحيف والاحتقار، فلا التشيع حسّن شروط الحياة البائسة لمحافظات الجنوب، ولا التسنن جعل من المحافظات الغربية تختلف عن السابق. حتى النخب السياسية فهي مصداق واضح للمثل اللبناني "ما في حدا أحسن من حدا"، إذ كلهم في اللصوصية سواء.
كل هذا وغيره جعل من التضامن هو الرهان الوحيد على الطائفية السياسية سيئة الصيت، فبخلافه سنصطدم بأهواء طائفية عنيفة، وهيمنة دولية وإقليمية تمزقنا شر ممزق إلى الأبد.
من الصعب معرفة هوية الفنان الذي يسهر على رسم لوحة معبرة عن انتفاضة تشرين الأول/أكتوبر في نفق التحرير، ومن العسير للغاية فرز هويات النساء اللاتي يقمن بدور جبّار في الدعم الطبي لشباب الانتفاضة. بعبارة أخرى: لقد أنهى المنتفضون عصر الطوائف، ومنحونا كمية هائلة من نكران الذات والإحساس بالمسؤولية، ما يعجز عنه أصغر موظف في المنطقة الخضراء. ولكي لا نبقى في طور التجريد ينبغي لنا الدخول في عمق هذا الحدث التاريخي الذي سجّل لنا الكثير من القصص الملهمة.
شباب من كلا الجنسين يندفعون بتوق شديد لتقديم الخدمات الطبية، والحرص على تنظيف الساحة من النفايات، والعشرات من سائقي التكتك يتحركون ببسالة قل نظيرها لنجدة المصابين
شباب من كلا الجنسين يندفعون بتوق شديد لتقديم الخدمات الطبية، والحرص على تنظيف الساحة من النفايات، والعشرات من سائقي التكتك يتحركون ببسالة قل نظيرها لنجدة المصابين، وتوصيل الركاب بالمجان إلى نقطة آمنة لا يصلها مدى القنابل الدخانية. ثمّة شباب متدرعون بجسارة وقوة قلب معلقين هناك فوق سطح المطعم التركي (جبل أحد!)، كحائط صد، يخففون الضغط على أصدقائهم لكيلا يصل تأثير القنابل الغازية بالقرب من ساحة التحرير!
اقرأ/ي أيضًا: انتفاضة تشرين.. جيل اليوم في مواجهة النظام الطائفي
بعد الرجوع من ساحة التحرير، بصحبة سائق التكتك، كنت أفكر بالأجرة المناسبة، لأنه اشترط علي أن يوصلني حيث أريد، فقلت له لقد وصلت إلى محطتي، أنزلني هنا رجاءً. حاولت أن أعطيه الأجرة المناسبة لكنه فاجئني برفضه الصارم، وغير القابل للمساومة، حاولت أقناعه بقبول الأجرة لشراء الوقود، غير أنه رفض بقوة وهو يرمقني بملامحه البريئة ويجيبني "بخدمتك خالي وين متريد ببلاش!".
يروي لي صديقي، المرابط في ساحة التحرير، قصة معبرة : هاتفني أحد أقاربي يسأل عن الاحتياجات الضرورية لشباب التحرير، لكي يتبرع بالأموال اللازمة لهذا الشأن. اخبره صديقي، أن المواد الغذائية واللوازم الطبية متوفرة بكثرة، فما نحتاجه هو التبرع لسائقي التكتك؛ لأنهم يعملون بالتمويل الذاتي، فعلى الأقل نساهم معهم في شراء الوقود لعجلاتهم التي تعمل ليل نهار في نقل الجرحى وتوصيل الركاب بالمقابل، وكلهم بلا استثناء من المناطق الفقيرة، فهم الطبقة الكادحة التي وجدت نفسها "مقصّرة" في تقديم العون! فقامت بما قامت به للتعويض عن هذا القصير. بالطبع أن صديقي هنا لا يتكلم عن المثقفين، وإنما عن سائقي التكتك النبلاء، المهم في الأمر، وصلني المبلغ، يكمل صديقي، وذهبت مهرولًا للسائقين، وشرعت بمفاتحتهم بالموضوع، وجوبهت برفض قاطع، وكان جوابهم: هل تريد توريطنا بقبول هذا المقترح، لكي نُتَّهم فيما بعد بأن جهات خارجية تقوم بتمويلنا؟!
كلنا نتذكر شخصية "صائد الجوائز" في أفلام الغرب الأمريكي. صائد الجوائز الذي كان يجوب الولايات بحثًا عن مطلوب للسلطات الفيدرالية مقابل أجر مغرٍ، وكانت هوليوود تحرص على إسباغ بعض الصفات الأسطورية على صائدها البطل. لكن ثمّة بطل حقيقي رأيناه في ساحة التحرير، وهو صائد الموت! هل سمعتم سابقًا بهذا الصائد العظيم؟ إنهم فتيان بعمر الورود يرتدون قفازات سميكة، يستخدمها عادةً أرباب الحدادة، يتقافزون على القنابل الدخانية كما النمور الجائعة، ثم يرمونها بدلوٍ نحاسي مملوء ببعض الماء وهم يكشرون أنيابهم لوجه الموت!
لقد اختاروا التصالح مع الموت والنوم في أحضانه. البعض اختار التلاعب بهذه القنابل كنجوم كرة القدم، فأظهروا مواهب وطرق فريدة في رد القنابل على مطلقيها!
ثمّة شباب متدرعون بجسارة وقوة قلب معلقين هناك فوق سطح المطعم التركي (جبل أحد!)، كحائط صد، يخففون الضغط على أصدقائهم
إنهم يتضامنون حتى مع الموت، ويتوسلونه لكي يؤخر قليلًا من موتهم، فلسان حالهم يقول: أيّها الموت، نحن في العراق موتى مؤجلون، فأمهلنا قليلًا لنصنع الحياة "لنقّاد" العقل الجمعي!
اقرأ/ي أيضًا: