10-نوفمبر-2019

حطم جيل تشرين الصور النمطية التقليدية المتعارف عليها في العراق (Getty)

لأكثر من عقد ونصف والسلطة السياسية الفاسدة تتضخم على حساب الدولة عبر مشروعها الطائفي الذي أخذ أبعادًا متعددة في ترسيخ نفسه، منها ما هو مسلح لينتج نظامًا "محاصصاتيًا" هشًا بني على أساس رخو سياسيًا واقتصاديًا يفرض هيمنته بالقوة بعيدًا عن ثقافة الدولة في التعامل مع المواطنين.

ساهمت الطبقة السياسية من حيث لا تدري في صناعة هوية جديدة باحثة عن "وطن" يليق بها لتواجه مصير فشلها في الحكم

لعبت هذه السلطة من خلال أحزابها على عامل الهويات الطائفية لتتجذر أكثر، ولم تُدرك أن النبتة الفاسدة سترفضها التربة ولو بعد حين. غابت الهوية أمام بروز الهويات الأخرى المتفرعة التي تتيح للجماعة الطائفية التحكم بالدولة ومؤسساتها، وهو الأمر الذي تراكم وخلق جيلاً لم يكن في الحسبان، ولم يكن متوقعًا لا لدى السياسي ولا حتى المثقف المرتاب الذي لا يجرؤ على حسم أمره من الموقف، فكانت النتيجة الوطن في مواجهة الخراب والضياع والنهب والتهميش والفساد الطائفي.

اقرأ/ي أيضًا: نظرة إيران إلى احتجاجات تشرين.. عداء لشيعة العراق

في الواقع، ساهمت الطبقة السياسية من حيث لا تدري في صناعة هوية جديدة باحثة عن "وطن" يليق بها لتواجه مصير فشلها في الحكم، حتى وصلنا إلى مرحلة اللاعودة، والخيارين اللذين لا ثالث لهما، إما وطن يضمن الحقوق الوطنية كاملة، أو سلطة أحزاب فاسدة تُحكم قبضتها على البلاد.

كان انعدام الثقة وغياب الرؤية لبناء الدولة عاملًا مهمًا في انفجار الشارع، فكانت المنافسة بين الأحزاب على الكعكة، وليس على البناء والإعمار والخدمات، وعلى النفوذ والسيطرة وليس البرامج الخدمية المتطورة التي تسعى لخلق بيئة الرفاهية والازدهار، وحتى في اسوأ حالات المشهد المعقد، وفي اللحظة التي يتساقط فيها الشباب على أسوار الخضراء نتيجة الفشل والإخفاق السياسي الذي صنع انسدادًا في مجرى الحوار يجتمع الزعماء السياسيون في المنتجعات للتفاوض على دستور جديد يضمن حصصهم قبل كل شيء آخر، فهل بقي ما هو منطقي وعقلاني ليوقف المتظاهرين عن إصرارهم على قلع كل هذا النظام مع كل هذا الإسفاف واللامبالاة لشعب تحت رماد النار؟

إن ما يميز هذا الجيل أنه حطم الصور النمطية التقليدية المتعارف عليها، وطور من مفهوم الحراك إلى  قيادة الشعب للشعب بمواجهة السلطات، ذوبان المقدس والطائفة والأيديولوجيا أمام قوة الهوية المنبثقة من رحم المعاناة، وهو الأمر الذي عزز من معيار قوته أكثر، ولذلك لم تجد إلى  الآن هذه السلطة أي ثغرة لممارسة حيلها السياسية لاختراقه، وتعطيل قوة تياره الجارف الذي طوّر من أسلوب احتجاجه بما يتواءم مع متغيرات الزمن المادية والفكرية، وما يدل على ذلك أيقونة شعاره "نريد وطن" العميقة في بعدها السياسي والاجتماعي.

إن من أكثر ما يُعزز هذا التلاحم نمو الانتماء الوطني والتمسك بفكرة الوطن بعدما كان مبهمًا الذي يجمع شباب العراق جميعًا بهوية عراقية وشعار موحد ينبذ كل الهويات المتفرعة التي لطالما خلقت جوًا مشحونًا بالحروب والكراهية، وهذه إحدى تجليات صور الفشل السياسي.

حطم هذا الجيل الصور النمطية التقليدية المتعارف عليها، وطور من مفهوم الحراك إلى  قيادة الشعب للشعب بمواجهة السلطات

في ضوء ما تقدم، لم تُسهم الطبقة السياسية في إنتاج أي مفهوم للدولة يُعبّر عن تطلعات المواطن من منطلق الحاكم والمحكوم، بل خلقت نظامًا فاسدًا لا يتعدى دوره العنصر الأمني، ولا ينتج خدمات بل النهب والعنف ضد المطالبين بالثروات بصور مختلفة، بالإضافة إلى  جانب شبكة من النشاطات العملية والنظرية التي تلقي بالفائدة على أحزابها ولا تكتفي بترويج سيطرتها من خلال قوتها على الأرض عسكريًا عبر فصائلها المسلحة أو اقتصاديًا من خلال مكاتبها ونفوذها على موارد البلاد والحفاظ على مكتسباتها، بل أخذت بعدًا آخر أكثر قمعًا، وهو العمل على إخضاع الجماهير بالإكراه على الموافقة بطريقة حكمهم والسيطرة على مفاصل الدولة ليشعر المواطن العراقي أنه بلا دولة تحقق أبسط أحلامه في العيش الكريم.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ثورة تشرين.. ماذا تقترح النخب؟

انتفاضة تشرين.. فرصة لتقييم الذات