01-نوفمبر-2019

المحتجون في العراق رفعوا شعارات ضد الهيمنة الإيرانية (Getty)

منذ انطلاق الاحتجاجات في مطلع تشرين الأول/أكتوبر كان الترقب الأكبر لموقف إيران "المعروف" مسبقًا من أي حراك داخلي يستهدف النظام أو يتقرّب من مناطق الخطر التي تضعها إيران للداخل العراقي، لكن هذا الترقب نابع من خصوصية العلاقة العراقية الإيرانية بعد الغزو الأمريكي في عام 2003، بالرغم من أنه خرج في ذات النسق المتكرّر.

لم تدعم إيران الدولة في العراق خلال عقد ونصف، وإلا، من يدعم الدولة لا يعطي الأموال والسلاح والوجود لفصائل مسلحة خارجة عن إطار الدولة

كانت النظرة الإيرانية للعراق والعمل الداخلي فيهما تتخادم مع ما صنعه الغزو الأمريكي من نظام يتوافق مع التضاريس الطائفية والمكوناتية في العراق. الناس يقسمون إلى ثلاث جماعات، شيعة وسنة وكرد، وينبغي العمل للسيطرة على الشيعة بطرق التشابه الطائفي الذي كان جاهزًا بفعل حقبة الاستبداد والحرمان الذي عانى منه شيعة العراق طوال 35 عامًا من حكم البعث. لم تدعم إيران الدولة في العراق خلال عقد ونصف، فمن يدعم الدولة لا يعطي الأموال والسلاح والوجود لفصائل مسلحة خارجة عن إطار الدولة.

اقرأ/ي أيضًا: قاسم سليماني في الخضراء ويترأس اجتماعًا أمنيًا بدل عبد المهدي!

استمر هذا النمط من التعامل الإيراني مع شيعة العراق لسنوات طوال، مهيمن على نظام في دولة مفكّكة، وهو النمط  الذي سيكسره الربيع العربي الذي انطلقت خلاله احتجاجات في العراق عام 2011. تتعامل إيران مع التظاهر في العراق بحذر، بوصفه صعودًا للوطنية التي ستطلق أسئلة كبرى تتعلق بالدولة والهوية والسيادة والاستقلال.. الخ. لكن تظاهرات 2018 كانت الضربة القاصمة، ضربت إيران في موطن قواعد الأحزاب الشيعية، النجف والبصرة، واحدة مقدسة، وأخرى تشكل ثقلًا اقتصاديًا وبشريًا شيعيًا بالنسبة لهم. ذهب نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس، المقرّب من إيران إلى البصرة بعد إحراق القنصلية الإيرانية ومقار الأحزاب المقربة من طهران، وعلى غير عادته، كان المهندس منفعلًا والغضب يتطاير من عيونه قائلًا "سنلاحق أذناب أمريكا ولا أمان لهم بعد اليوم"، ومنذ ذلك اليوم، كل محاولة للاحتجاج في البصرة تنتهي بساعتها.

يقدم نظام المحاصصة تصورات تكاد تكون يقينية بالنسبة للإيرانيين، وهي أن التظاهرات لا بدّ أن تكون منتجًا أمريكيًا يقابله "النظام الشيعي"، المنتج الإيراني الذي يجب أن يبقى وإن كان على حساب معاناة الناس وانعدام الكرامة والخدمات والعيش في مراحل ما قبل الدولة. "ميليشيات" تتحكم بنظام وترسم الخطوات أحيانًا لمساره دوليًا وإقليميًا. ظلت هذه التصورات هي الحاكمة على وجهة النظر الإيرانية بعيدًا عن أسئلة الناس الحقيقية وحاجاتهم، والتراكم الذي سيبنى لديهم بفعل تراجع النظام واستمراره وفق آلية نهب تستحوذ على كل شيء ولا تقدم شيئًا على جميع المستويات.

ليس الشيعة في العراق جماعة متجانسة يمكن العمل معها والسيطرة عليها بهدوء، وزعيم التيّار الصدري مقتدى الصدر خير مثال. وهذا الأمر، أفرز لنا تدريجيًا وبفعل التراكم والظروف الداخلية شبابًا شيعيًا، غيرَ خاضع للخيارات التي تضعها الأحزاب في نسق المحاصصة والتوزيع الطائفي، شباب لا يعي قصة الثورة الإسلامية وحماية الطائفة أمام العدو المتخيّل وغيرهما. إنه يريد أن يعيش بسلام في بلاد هو يعتقد أن إيران تتلاعب بمصيرها وتحمي معظم الفاسدين فيها، فضلًا عن تراجعها دوليًا وإقليميًا، ولهذا يمكن النظر طويلًا للشعار الذي رفع في التظاهرات الأخيرة "نريد وطن"، هذا الشعار أكبر حتى من قصة مطالب خدمية مثل المطالب التي رفعت في البصرة وبغداد فيما سبق، أنه يمثّل أقصى مراحل الوعي في مسألة الدولة العراقية ووصولها إلى هذا الحال لأسباب كثيرة، ومنها الصراع الإقليمي الذي كانت إيران العنوان الأبرز له.

لقد ضربت إيران في البصرة عام 2018 في سياق انعدام الخدمات وتلوث المياه، وضربت في بغداد في سياق "سرقة الوطن" وتدمير الدولة وإنهاء وجودها، كما أن الكثير من المتظاهرين يعتقدون أن "القنّاص كان إيرانيًا وليس عراقيًا"، هذا ما سمعته في إحدى المستشفيات في الأيام التي بقيت رؤوس الشباب متناثرة على أسفلت الشوارع. لعل هذا هو التحول الجديد في الوعي يتخطى قصة التشابه الطائفي الذي تحول سابقًا إلى تسليم سياسي بالمطلق. لم يعد خطاب الإرهاب والخوف من بعبع البعث يؤثر بالشباب، لقد دخل هذا الجيل معركة الحقوق من أوسع أبوابها قبالة أزمة المنجز الذي تعاني منه الأحزاب الشيعية، المقربة من إيران وغير المقربة، وهو الأمر الذي يبرّر دائمًا بخطاب الحرب والتهديد المستمر لحصون الطائفة.  

دخل هذا الجيل معركة الحقوق من أوسع أبوابها قبالة أزمة المنجز الذي تعاني منه الأحزاب الشيعية، المقربة من إيران

كانت احتجاجات 2019 صدمة للجانب الإيراني، بالرغم من أنها بهذا الموضوع حصرًا تأتي في سياق واحد. منذ أن ارتفع الصوت العراقي كانت إيران من المستهدفين في المساهمة بخراب البلاد، لكن صبغة التظاهرات والمناطق التي خرجت منها هذه المرة، لا تعطي أي تصورات عن أنها غير شيعية وبالإمكان مقابلتها بالحجج التي أطلقها المالكي سابقًا "بعثية، داعشية". لقد خرج الشباب من المناطق الشيعية يستقبلون الرصاص بصدور رحبة ليس لهم أي رمز غير العلم العراقي وشعار "نازل آخذ حقي"، أو "نريد وطن"، ومن المعروف، أن رمزية العلم العراقي، ومنذ 2015، كان المقربون من إيران يُواجهون بها من قبل المتظاهرين لأسباب كثيرة، أهمها، أن حلفاء إيران لا يؤمنون في الخطاب الأيديولوجي بالحدود بين الدول، وليس من أدبياتهم رفع الأعلام العراقية، ولم تكن الاحتجاجات تحسب على الصدريين أو المدنيين حتى يمكن مقابلتها بأزمة المنجز والمشاركة في الحكومة، كانت التظاهرات عراقية خالصة وتحمل شعارات وطنية مقابل نظام غير وطني، هكذا ينظر الشباب.

اقرأ/ي أيضًا: ‎رويترز: ميليشيات إيران وراء إجرام القناصين في العراق!

كما أن مقاتلي "داعش" خرجوا بهذه الاحتجاجات، والثقل الشيعي في بغداد هو الموجود فيها. رأيت مجموعة من مدينة الصدر كانوا يهتفون بأعلى أصواتهم ضد التدخل الإيراني. هذه النقمة العراقية تمثل وعيًا جديدًا ربما أن الأحداث راكمت وجوده إلى أن انفجر في اللحظة التي خرج الشباب فيها ولم يرفعوا سوى العلم العراقي مع المطلب الأهم؛ نريد وطنًا، فما كان من السلطة إلا أن ترد على حلم الشاب برصاصة في جبهته أو صدره.

لم تتعامل إيران مع التعقيد العراقي الداخلي ولم تدرك صعود الوطنية العراقية على أيدي هذا الجيل. تعتقد إيران أن ولاء العراقيين الشيعة هو أمر مفروغ منه، ولهذا هي لا تكترث بكل الشعارات التي انطلقت في احتجاجات 2015/2016 "إيران برّه برّه"، والتي ستتحوّل في احتجاجات 2019 إلى أكثر حدة وتتخذ في بعض الأشكال إلى ما يشبه العدائية التي ستفاقمها إيران وقياداتها بالتعامل مع الأزمة. لقد قال المرشد الأعلى للثورة الإسلامية علي خامنئي في 30 تشرين الأول/أكتوبر وأثناء ما كانت صدور الشباب تستقبل الرصاص ورؤوسهم تواجه الغاز المسيل للدموع إنه "أوصي الحريصين على العراق ولبنان أن يعالجوا أعمال الشّغب وانعدام الأمن الذي تسبّبه في بلادهم أمريكا والكيان الصهيوني وبعض الدول الغربيّة بأموال بعض الدول الرجعيّة"، ليشاركه في وجهة النظر هذه نخب إيرانية سياسية ومسؤولة، مثل نائب رئيس البرلمان الإيراني، وغيرهم من العراقيين الحلفاء والتابعين في خطابهم عبر وسائل الإعلام.

لقد أكد المرشد الأعلى للثورة الإسلامية عداء إيران للاحتجاجات في العراق، كما دفع بتعميق الشرخ مع شيعة العراق ومطالبهم في الحياة، أنه يصر على استمرار مرحلة التعامل مع العراق بوصفه عراقًا لجماعات تدور حول نفسها في الوعي الطائفي ولا يمكن أن تخرج عن النسق الولائي للجمهورية الإسلامية كما يمكن أن تبقى بذات التراجع دون أن تصرخ، والأمر ينطبق على لبنان أيضًا، لكن ربيع الشباب أو المشرق العربي هو من سيصنع المعادلة في وجوده بالشارع، معادلة الحقوق التي لا يمكن التنبؤ بها، ولا يتعلّم من دروسها الدول الإقليمية التي تحارب إرادة الشباب في التطلع نحو دول ديمقراطية توفر لهم الكرامة و"الوطن" المستلب!

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

فصائل مسلحة ترفع ورقة السيستاني بوجه الاحتجاجات.. والمرجعية ترد فورًا!

الثابت والمتحوّل في احتجاجاتنا: دروس للمشرق العربي