07-يناير-2020

النقطة المرجعية الأكثر رسوخًا في العراق هي المؤسسة الدينية والمقدس (فيسبوك)

هل حقًا أن "المقدس" يعد إحدى العقبات في تطور الشعوب؟ بمعنى لو وجدنا شعبًا يقدس ديانةً أو رمزًا ما، فسيكون هذا الأخير علامة بارزة على عدم اللحاق بركب الحداثة. بعبارة أخرى: يغدو المقدس حجر عثرة في طريق التقدم، والشعوب التي تغطس في وحل التقديس ستكون، ربما، شعوبًا متأخرة. فالتقدم يرادف عبور المقدس ونقده وتعريته وإرجاعه إلى حظيرة العادي وسيضعنا على سكّة التقدم. وفي الحقيقة، أن تجربة الحداثة الغربية تعطينا درسًا بليغًا حول هذه الحقيقة؛ ذلك أن الحداثة والعقلانية تعني لا سلطة فوق سلطة العقل.

 المقدس ليس قالبًا محددًا قابعًا في السماء؛ فسواء كان شخصًا أو أيديولوجيا قومية أو عرقية أو دينية، تكمن خطورته حينما تمثّله مؤسسات على الأرض

لو نأخذ الشعوب الآسيوية، كالهند والصين، على سبيل المثال، لم تفارقها ثقافة تقديس الأسلاف والأرباب، فمن الطبيعي أن نشاهد في الهند هندوسيًا يقدّس البقرة، لكنّه قد يكون بروفيسورًا مختصًا في أحد الحقول العلمية، وهذا راجع إلى الثقافة الهندية التي تميل إلى "الأخلاق العَلمانية"، كما يصفها الدالاي لاما، وتنظر إلى الآخرين على حد سواء. كذلك الصين، فعلى الرغم من النمو الاقتصادي الهائل ظلّت، إلى حد كبير، محافظة على تقاليدها الاجتماعية ومنها تقديس الأسلاف.

 اقرأ/ي أيضًا: الصراع بين جيل الاستبداد وجيل الديمقراطية

لماذا تقدمت الصين بخطوات كبيرة على الهند؟ الفارق هنا في سياسة التنمية، وليس بغنوصية الهند وميلها للروحانيات وتعدد أديانها وأربابها؛ فالبلد يتطوّر بالتدريج ومن الاقتصاديات الواعدة في المستقبل ويمتلك عقولًا ذكية ومبدعة، وخصوصًا في قطاع تكنولوجيا المعلومات، وهو من أسرع القطاعات نموًا، ويسجل نموًا في القوة الشرائية هو الأعلى في العالم .

 المقدس ليس قالبًا محددًا قابعًا في السماء؛ فسواء كان شخصًا أو أيديولوجيا قومية أو عرقية أو دينية، تكمن خطورته حينما تمثّله مؤسسات على الأرض، وغالبًا ما تستحوذ عليه السلطة الدنيوية لتحقيق أهدافها، كسيطرة السلطة في مصر على الأزهر. بمعنى دولة "عَلمانية" تهيمن على المؤسسة الدينية لصالح الدولة، وليس العكس كما نجده في إيران، فهذه الأخيرة تتخذ من الأيديولوجيا الدينية كقوة مهيمنة على الدولة، ويغدو الدين هو الدولة والعكس صحيح، بعبارة موجزة: الدولة تهيمن على المؤسسة الدينية في مصر، والمؤسسة الدينية تهيمن على الدولة في إيران.

 وعلى الرغم من حضور المقدس الديني في إيران، فهو لم يتحول إلى حجر عثرة في طريق التقدم عمومًا. بماذا نفسر تفوّق إيران سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا على المستوى الإقليمي؟ في ذات الوقت، تركيا تماثل مصر من ناحية الهيمنة على الدين، ذلك أن تركيا الإخوانية بقيادة أردوغان، والعَلمانية بقيادة العسكر، سجّلت تطورًا اقتصاديًا، ويشهد قطاع التجارة والسياحة تطورًا ملحوظًا، فضلًا عن موقع تركيا الإستراتيجي، وعضويتها في حلف الناتو، اللذان جعلاها دولة إقليمية مؤثرة.

 وفي العراق، تأخذ المؤسسة الدينية المتمثلة في حوزة النجف الشيعية مكانة وسطًا؛ ففي أيام حكم البعث كان هذا الأخير هو المهيمن على هذه المؤسسة الدينية العريقة. وبعد انهياره اتخذت مكانتها التاريخية، وتدخّلت بشكل وبآخر في تشكيل الحكومة الشيعية، غير أنها ظلّت وفيّةً لتقاليدها، وهو القبول بدولة مدنية، وإن كانت معالم هذه الدولة، التي تقر بها الحوزة، غير واضحة المعالم حتى الآن. بمعنى آخر، إن شكل الدولة العراقية التي تقر بها الحوزة النجفية، لم تٌحدد هويتها بشكل واضح؛ هل تقبل، مثلًا، الحوزة بدولة علمانية لا تقصي الدين في الحيز العام، أم أنها دولة لا لهذا ولا ذاك؟ في الدستور العراقي لا يجوز سن قانون يتنافى مع الحريات، وفي فقرة أخرى لا يجوز سن قانون يتنافى مع الشريعة الإسلامية!

 شكل الدولة العراقية التي تقر بها الحوزة النجفية، لم تٌحدّد هويتها بشكل واضح؛ هل تقبل الحوزة مثلًا بدولة علمانية لا تقصي الدين في الحيز العام، أم أنها دولة لا لهذا ولا ذاك؟

 في الحقيقة، أن مقدار تطور بلد ما، يعتمد بشكل أساس على قوة مؤسساته، فالفارق هنا مؤسسي قبل كل شيء. على الرغم من الديمقراطية المنقوصة وتراجع الحريات لصالح الشريعة الإسلامية، غير أن الحسّ الحضاري المشهود للإيرانيين، وقوة مؤسسات الدولة، والثقافة الإيرانية التي تميل إلى الحياة المدنية، أعطت هامشًا نسبيًا للحريات على حساب هيمنة الشريعة، مدعومة بمؤسسات دينية راسخة، والتي شكّلت اضطرابًا ملحوظًا في التقاليد الإيرانية ذات الميول "العَلمانية".

 اقرأ/ي أيضًا: عن الهوية والاختلاف ومصيرنا المشترك

وفي تركيا، تتسع مساحة الحريات مقارنة بجارتها إيران. والأمر يعود لوجود مجتمع مسلم، وغياب المؤسسة الدينية، وتخلّص المجتمع التركي من كونه مجتمع ممسوك رهن إشارة الفتوى، ورسوخ المؤسسات المدنية. فلا يبقى إلّا الإخوان المسلمين، بقيادة أردوغان، الذي يحلم باستعادة أمجاد العثمانيين. ما عدا ذلك، ورغم الفوارق التي ذكرناها، تبقى تركيا وإيران تميلان إلى "المقدس" القومي قبل كل شيء، والقومية حافزها أكبر من الدين في استنهاض أمّة ما.

 إن البنية المؤسسية والاجتماعية، هي التي تصنع الفوارق في أي بلد، مهما كانت الأيديولوجية التي يرفعها، وهوية الدولة التي يتبنّاها.

 حتى الحروب الأوروبية، لم تكن صراعًا بين الكاثوليك والبروتستانت، بالمعنى الحرفي للصراع الديني، وإنما كان يمتزج فيها الحس الديني والقومي والإستراتيجي. بعبارة أخرى: صراع من أجل النفوذ. بمعنى، أن الإمبراطورية الإسبانية على سبيل المثال، التي حاولت تشكيل العالم من خلال اتساع نفوذها الإمبراطوري، لم يكن يحركها الهم الكاثوليكي، بل كانت تراكم النفوذ الاقتصادي والسياسي والجغرافي لتعزز هيمنتها على العالم آنذاك. نعم، سيكون الخطاب الديني هو الشكل التعبيري الأكثر تأثيرًا للتسويق السياسي، لكن هذا لا ينفي الحقيقة أعلاه من أن طبيعة صراع الإمبراطوريات، وتشكيل العالم على طريقتها الخاصة، كان دافعًا دينيًا محضًا فحسب، وإنما يتعداه إلى دائرة أوسع. لقد كانت فرنسا الكاثوليكية تتحالف مع الإمبراطورية العثمانية الإسلامية لحماية ألمانيا البروتستانتية ضد إسبانيا الكاثوليكية!

 خلاصة الأمر، ثمّة مصالح قومية وشروط تاريخية وفوارق مؤسسية وبنية اجتماعية هي من ستحدد هوية الدولة، وهي من ستحدد طبيعة الصراع، وهي من ستحكم فيما لو كان المقدس سيقف عائقًا أمام حركة التقدم. إن إعلان دولة عَلمانية في العراق، على سبيل المثال، لن يكون ذا تأثير عميق، ذلك أن العراق لم يشهد تقاليد الدولة الحديثة، فضلًا عن بنيته الاجتماعية ذات المكونات الطائفية والقبلية. لذا سيشهد مقاومة اجتماعية عنيفة ضد هوية الدولة العَلمانية، وسيلتجأ إلى نقطته المرجعية الأكثر رسوخًا وحميميةً في ذاكرته، وهي المؤسسة الدينية ورموزها المقدّسة. بينما نجد تقاليد الدولة في الصين والهند وفارس وتركيا، تستمد جذورها من العمق الحضاري؛ إذ مهما كانت هوية الدولة في هذه البلدان، ومهما كان المقدّس الذي يهيمن على ذاكرتها، لا يمنعها من السير حثيثًا نحو التقدم.

ثمّة مصالح قومية وشروط تاريخية وفوارق مؤسسية وبنية اجتماعية هي من ستحدد هوية الدولة، وهي من ستحدد طبيعة الصراع، وهي من ستحكم فيما لو كان المقدس سيقف عائقًا أمام حركة التقدم

 وحتى لو كانت الحريات تسجل تراجعًا ملحوظًا، أو درجات متباينة في أحد هذه البلدان، غير أن الشروط التاريخية المتوفرة، التي ذكرناها قبل قليل، تجعل الحرية قريبة المنال في بلدان ذات عمق حضاري، بينما تسجّل تدهورًا وفوضوية في بلدان لم تشهد هذا البعد المؤسسي حتى لو كانت هويتها عَلمانية، فسيكون المقدس نقطتها المرجعية الوحيدة، ما يجعلها تغرّد خارج سرب التقدم.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

خصومات مزمنة ومعارك ذهنية

ساحات الاحتجاج.. خطاب العوائق التاريخية