04-يونيو-2020

من الطبيعيّ أن يبقى القاتل ومن يحميه طليقًا يتنفس الهواء العذب في العراق (فيسبوك)

كل المؤشرات تقودنا إلى حقيقة مفادها: إن النظام الذي أسقطه الأمريكان لم يكن بمضمونه ومعناه وإنما بشكله وشخوصه. أمّا امتداداته ومؤثراته لا زالت شاخصةً حتّى هذه اللحظة كما لو أنّها ظل لا يفارق صاحبه. بمعنى آخر، إنّ بنية النظام السياسي والاجتماعي لا زالت تحتفظ بمكوناتها الرئيسية؛ الطائفية والقبلية والمناطقية التي تشكّل لحمة العقيدة العراقية وسداها. فحزب البعث لم يخرج من هذه الحقيقة على الإطلاق، وما تم إسقاطه هو سلطة صدام حسين واستبدالها بسلطة أخرى. إن المغزى من هذه السطور ليس المراد منه سردًا تاريخيًا بفظائع البعث، لكن إيقاع الأحداث السريع والمكرر حد المتشابه يمحو لدينا فضيلة النسيان، أعني أنه يذكّرنا دومًا ببعض مسرحيات سلطة البعث السابقة ومهرّجها الأكبر بخصوص خطاباته الفارغة والمضحكة ضد أمريكا وإسرائيل.

أراد أن يظهر صدام حسين كحامل لمشعل حقوق الإنسان يوم أعلن استعداده لدعم الفقراء السود في الولايات المتحدة، لكنّه لم يتورّع في قتل شعبه والحط من شأنه

ليس هذا فحسب، بل يذكر الباحث الأمريكي (إيريك دافيس)، في كتابه المهم "مذكّرات دولة" ما مضمونه، إن صدام حسين كان سخيًا للغاية بشراء عقول بعض الصحفيين في الولايات المتحدة. ويذكر الباحث أنه قرأ في أحد المجلات مقالة تتكلم عن حضارة العراق، فوجد فيها بعض الأخطاء، اتصل على أثرها بكاتب المقالة، فشعر هذا الأخير بالتوتر، الأمر الذي قاد إيريك دافيس إلى حقيقة صادمة وهي أن الكاتب لم تكن له علاقة لا من قريب ولا من بعيد بمضمون المقالة! ولم يكتفِ صدام حسين بتلميع سيرته عبر تقديم الرشا لمثل هؤلاء الكتّاب وطبع المجلّات الأنيقة والفاخرة عن حضارة العراق لتحسين سيرته السياسية، ولم يكتفِ كذلك بنحت اسمه على أحجار الآثار، وإنما خطرت له فكرة تجعل منه حاملًا لمشعل حقوق الإنسان يوم أعلن استعداده لدعم الفقراء السود في الولايات المتحدة، لكنّه لم يتورّع في قتل شعبه والحط من شأنه.

اقرأ/ي أيضًا: قطار الموت البطيء

في عملية تبديل السلطة التي حدثت في العراق، يبدو أن الثأر من صدام حسين لم يحمل الدوافع الكافية لكي لا نصنّفه ضمن الدوافع الشخصية؛ وإنما، على ما يبدو، كان ثأرًا شخصيًا. إذ لم يتغيّر النظام ببنيته، كما ذكرنا، وإنما ذهبت سلطة وجاء رديفتها! ولا زالت الطائفية والقبلية والمناطقية تمدنا بكل مشاهد الكوميديا السوداء التي كان بطلها "عبد الله المؤمن". فلا يوجد أدنى حرج في إقدام السلطة الجديدة (الرديفة) على قتل أبنائها بدم بارد ثم تتهم المندسّين في إحداث كل هذه الفجائع. لا زال قاتل شباب المظاهرات طليقًا حتى هذه اللحظة، بل أصبح عشرات الشهداء ومئات الجرحى في خانة المجهول: من غدر بهم؟ أي حزب أو ميليشيا قامت بتصفيتهم؟ من الذي أوعز للقناصين للقضاء على الشباب العزّل بدم بارد؟

 كل هذه الأسئلة وغيرها لم نجد لها جوابًا لا عند رئيس الوزراء السابق ولا اللاحق. ويظهر من مواقف السلطة المتشابهة أن هذه الدماء تخضع هي الأخرى للمساومات وحفلات القمار التي تشرف عليها الإقطاعيات السياسية. لقد تزاحمت "الإنسانية" عند بعض ساسة الخضراء وتزاحم سجّل أولوياتهم؛ فليس المهم التضامن مع شعبهم، ومن الطبيعيّ أن يبقى القاتل، ومن يحميه، طليقًا يتنفس الهواء العذب، وليس غريبًا أن تتسع رقعة مقبرة النجف للشهداء الجدد؛ شهداء الحشد الشعبي، وشهداء المفخخات، وشهداء انتفاضة تشرين. هذا ليس مهمًّا، على الأطلاق، المهم كل المهم أن يتضامن هؤلاء الفاسدين مع سود أمريكا!  وينددوا بظلم النظام الأمريكي وسجّله المتعثّر بحقوق الإنسان تجاه السود (وهذه المرّة ليس صدام حسين). سياسيو العراق (أو المُسيّسون) يريدون أن يلقنوا أمريكا درسًا بحقوق الإنسان، بينما لا يمكنهم تشكيل حكومة ولا اتخاذ قرار من دون إمضاء السفير. لا يمكنهم وضع العلم الأمريكي في الشارع وحرقه أو سحقه بالأحذية كما السابق. لقد رٌفعَ العلم الأمريكي من سجّلهم، وطبعًا بإيعاز أمريكي! فلم يعد هذا العلم في يوم القدس مطليًا على شوارع بغداد.

في الأيام الأخيرة لصدام حسين، وبعد أن تم إذلاله كليًا، يخرج لنا من على شاشات التلفزيون يتحدث لنا عن قيم البطولة والقومية والعداء التاريخي لأمريكا، بينما لم يكن بمقدوره ارتداء بزّته العسكرية التي حرموه منها الأمريكان، ولم يتوقف الإذلال عند هذا الحد، بل عمدوا إلى تفتيش غرفة نومه في أيام لجان التفتيش الدولية، بل أكثر من ذلك، لم يستطع أن يحرك فصيلًا عسكريًا من مكانه، ولم يكن بمقدوره أن يحرّك طائرة في الأجواء العراقية، لأنها وببساطة شديدة، سيتم استهدافها من قبل الجيش الأمريكيّ. وبالطبع لم تكن في حينها طيارات مُسيّرة! لم يخطر على رجال الكاوبوي وسيلة إذلال إلّا وجربوها على صدام حسين، فقد رضخ مذلولًا في مفاوضات خيمة صفوان لكي يبقى رئيسًا كارتونيًا على هذا الشعب المضطهد.

 ثمّ ماذا بعد ذلك؟ لقد تجسّدت عنتريات صدام حسين وشعارات ومسرحياته المضحكة، تجسّدت كلها في حفرة لا تختلف كثيرًا عن حجم البالوعة. هل ثمّة عبرة تلوّح في الأفق توعض المنتشين بسكر السلطة؟ لا أعتقد! فمن يضع نفسه في خانة الاستثناء لا ينفع معه سوى مكر التاريخ، وتلك الأيام نداولها بين الناس.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

انتفاضة تشرين.. صوت المستقبل

معضلة النظام العراقي وأزماته.. انتهت حلول الأرض؟