09-مايو-2020

الصدام مع القوى المهيمنة يعني الصدام مع الموت (Getty)

لا نحتاج إلى مؤامرة خارجية، فنحن بالأساس متآمرون على أنفسنا. فإجبار الناس على ما نريد سيحيلهم لاحقًا إلى كائنات منافقة وحاقدة. وبمرور الوقت سيتحوّل المقهورون إلى جيش رهن الطلب تحت تصرّف أي قوّة، سواء كانت داخلية أم خارجية، للإطاحة بخصومهم. فالذاكرة تنتظر الفرصة المناسبة لتفجّر كل مكبوتاتها ولو بعد حين. ذلك أن فضيلة النسيان ليست دائمًا تحظى بقبول وترحيب من قبل المقهورين والمنبوذين، وسيحيلون الحياة إلى جحيم على رؤوس جلاديهم. لكن المشكلة هنا أننا نضع أنفسنا دومًا في قائمة الاستثناء.

إجبار الناس على ما نريد سيحيلهم لاحقًا إلى كائنات منافقة وحاقدة. وبمرور الوقت سيتحوّل المقهورون إلى جيش رهن الطلب تحت تصرّف أي قوّة

 إن تاريخ "الجثث المُعَلّقَة" في العراق السياسي يوضّح لنا هذه الحقيقية: "كلّما جاءت أمّة لعنت أختها"، إذ سيجد الانقلابيون جمهورًا غفيرًا يساندهم في مجازرهم اللاحقة. يذكر حنّا بطاطو حادثة قتل الملوك، ويعتبرها حادثة مروّعة بكل تأكيد، ثم يحلل بعد ذلك واقع الحكومات التي لم تكن رحيمة مع "الشرقاويين"، فما كان من هؤلاء الجياع المُعَذّبين إلّا الانتقام بهذه الطريقة البشعة. كل شيء يمكننا أن نتندّر به في حقائق التاريخ إلا أخذ العبرة والتعلم مّمّن وقعوا بنفس الفخاخ! فهؤلاء كانوا أيضًا يظنون أنهم على حق فلا يشملهم مكر التاريخ.

اقرأ/ي أيضًا: لماذا لا نتغيّر؟

المقصود هنا، وباستعارة المفاهيم الماركسية: أينما وُجدت طبقة مهيمنة وجدت معها طبقة مُهَيمَن عليها سرعان ما تنتقم لنفسها حينما تجد الفرصة الملائمة. ويدخل البلد في دائرة من الفوضى والجحيم، وفي هذه الأثناء قد نستدعي كل حمولاتنا الأيدلوجية، وهذه الأخيرة تحمل في طياتها نماذج مخيفة من القتل والترويع. ماذا ينتظر البلد الذي يعاني تمزّقًا اجتماعيًا وسياسيًا ويضيّق على أبناءه الذي تجبرهم القوى المهيمنة على الأكل والشرب في مطبخ الأيديولوجيات بتعبير الراحل هادي العلوي، وتُقَرَّر في هذه المطابخ من هو الصالح ومن هو الطالح. فمن المؤكد سيتحول المقهورون إلى طابور خامس لأي قوة خارجية وتذوي فيهم روح الانتماء للوطن، فخير الأوطان ما حملك كما يقول الأمام عليّ بن أبي طالب.

في العراق يتّخذ طابع الهيمنة شكلًا آخر بالطبع؛ لا توجد نخبة تقدمية تحرّك عجلة الإنتاج وتشيّد المؤسسات العصرية، بل توجد قوى مذهبية وعشائرية تهيمن على المشهد السياسي والاجتماعي. وبمرور الزمن ربما تتسع دائرة الفئات التي تعاني من القهر الاجتماعي التي تخلّفها هذه القوى المهيمنة، وتفرز لنا هذه الطبيعة الثقافية القاسية جيًلا يتّخذ من الانتقام وسيلة "عقلانية" للإطاحة بخصومه! بعد أن أفلس من كل السبل التي تؤمن له كرامته وحريته، لا بل حياته! والخشية من هذا الزاوية تحديدًا: أن نبقى في طاحونة العنف المغلقة؛ استبداد يحمل في أحشائه استبداد جديد وهكذا دواليك.

 إن الصدام مع القوى المهيمنة يعني الصدام مع الموت؛ إذ لا ضمانات قانونية، ولا قبول اجتماعي فعلي يتقبّل الاختلاف. باختصار، لا توجد دولة مواطنة تضمن حرية التفكير وحرية التعبير، بل ستقف مع القوى المهيمنة ضد كل من تسوّل له نفسه المساس بالقيم التي تتكون منها منظومتنا الاجتماعية. إن كان ثمّة شيء يشغل هذا الجيل المغضوب عليه هو ترك الوطن بكل ما فيه والبحث عن حياة لائقة قد يعثر عليها عند الآخرين. وفي اللحظة التي تنطلق فيها أي شرارة تغيير سيكون أول المؤيدين حتى لو احترق البلد من شماله إلى جنوبه. إنه انتقام رمزي وتعويض عن كل حالات القهر والحرمان التي رافقت هذا الجيل فيترجمها على شكل ردّات فعل عنيفة تكسبه لذة الانتصار على خصومه الذين أذاقوه الأمرّين. فتتفاقم لديه روح العدمية والخذلان والنيل من خصومه بأي طريقة ممكنة.

  الشيء الذي يتساوى مع الموت ولعله يمشي معه سويًا هو النبذ الاجتماعي. حينما تتحوّل إلى منبوذ في مجتمعك فأنت عبارة عن جثّة ميّتة تنتظر لحظتها المناسبة في هذا الطابور الطويل. لا يحق لك الاختلاف، لا يحق لك أن تفكّر بحريّة، وبمرور الزمن ستنفجر كقطعة ديناميت، ثم تعلن القوى الاجتماعية المُمانعة شرعية موتك! إنهم ينتظرون منك أن يموت فيك كل شيء ثم ينقضون عليك كما الضواري لكي يكتسب فعلهم شرعية مقدسة،  فلا مجال للاختلاف في "مجتمع" القبيلة.

 الصدام مع القوى المهيمنة يعني الصدام مع الموت؛ إذ لا ضمانات قانونية، ولا قبول اجتماعي فعلي يتقبّل الاختلاف

 إن القوى المهيمنة تعمل عمل المُغسّل والدفّان الذي يشرف على طقوس الدفن. غير أن دفاننا أو مُغسّلنا هذه المرة يعمل بوتيرة بطيئة للغاية، إنّه تعذيب بطيء يراعي فيه موت كل شيء، فخروج الروح هو المحطة الأخيرة من هذا الموت الطويل. أولًا ل ابد أن تتكيّف مع كل أشكال القمع. ثانيًا، عليك أن تأخذ إمضاءً من المهيمن ليحدد لك مساحة التعبير والتفكير. ثالثًا، عليك أن تكون مستعدًا للموت كشخص مارق ومجدّف. رابعًا، أنت ميت الآن، لكن كل ما عليك أن تراعي طقوس الموت، فقد تبقى مُعلّقًا بين فكّي الحياة والموت حتى يحين دورك للميتة المناسبة.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

القراءة والحرية

الحرية بوصفها مشكلة اجتماعية