10-يوليو-2020

شروط حصول الأزمات "باقية وتتمدد" في العراق (Getty)

تصبح ذكرى الانتصارات الكبيرة في تاريخ الدول مناسبةً للتفاخر من جهة، وللتأكيد على قيم تتبناها النخب الحاكمة للبلاد من جهة أخرى. وشأنها شأن جميع القضايا في العراق، تعطي ذكرى تحرير الموصل من تنظيم الدولة (داعش) صورة إضافية لطبيعة تفكير "الطبقة" السياسية من خلال خطاباتهم: هذا من يَكتب شعرًا يخرجه من حالة الضيق السياسي التي يعاني منها، وذاك يجدها مناسبة للتذكير بالنازحين (الناخبين) وخراب المناطق المحررة، وآخر يتملق المرجعية الدينية تقربًا مما بقي من جماهير مساندة. وهي بحق ـ أي الخطابات ـ تعبيرًا عن قيم النظام.

لم يتوقف "قادة" العملية السياسية عن هواية المحاصصة التي يتقنونها وهم يصبون نفط العراق على حريقه عِوض إطفائه

مر العراق بمعركة طاحنة مع التنظيم تمتد جذور أسبابها إلى أبعد من تشكيل النظام الجديد الذي غذّا بدوره كل عناصر الانقسام في المجتمع وسقاها حتى خنقت أغصان الفرقة جسد المجتمع ذاته لتتوج بحربٍ لم يسلم منها "مكون" من المكونات العراقية بتعبيرات سياسيي بريمر.

اقرأ/ي أيضًا: هكذا بدأت "النكبة".. قصص لم ترو من "سقوط" الموصل وتكريت!

وبدلًا من بحث أسباب الانهيار الذي أدى إلى كوارث على الصعيد الإنساني والاقتصادي والسياسي والاجتماعي، والسعي لانطلاقة جديدة تصفّر الأخطاء التي قادت للانهيار؛ لم يتوقف "قادة" العملية السياسية عن هواية المحاصصة التي يتقنونها وهم يصبون نفط العراق على حريقه عِوض إطفائه، جهلًا بأنه يصلهم.

انشغل الطائفيون والانتهازيون والمستغربون بالبحث عن الجذور الدينية لمشكلة الإرهاب، وراحوا يلوكون الحجج التي تؤكد علاقة التطرف بآيات وأحاديث ومذاهب دينية وكأنها اكتشاف يستحق جائزة الإبداع. ورغم أهمية ذلك، إلا أنهم ـ بوعيٍ أو دون وعي ـ ساهموا بصرف النظر عن الأسباب المباشرة التي هيّأت الظروف لاختراق جماعات إرهابية قادمة من عصور ما قبل التاريخ مجتمع المناطق الغربية والشمالية.

 كانت الأجواء في المناطق المذكورة مُساعدة لأي طرف يقوم بدور طرد كل ما له علاقة بالدولة والنظام من أرضهم، ساهم بصناعتها كل الأطراف المحلية والعربية والأجنبية. ولم تلتفت الأطراف المحلية، رغم الدمار الحاصل، وكعادة أنظمتنا في الوطن العربي، إلى وجود مشكلة حُكم حقيقية، لناحية طبيعة النظام الخالق للأزمات والمثبّت للانقسام الطائفي والمُساعد على تدخل الدول الخارجية، كما لم تكترث بسرطانٍ اسمه الفساد ينخر بجسد الدولة والمجتمع.

أنجز المقاتلون العراقيون سواء في المؤسسات التي عانت من المحاصصة والفساد وغياب العقيدة الوطنية، أو الذين تطوعوا بناءً على دعوة المرجعية الدينية في النجف، مهمة تحرير المناطق من التنظيم الإرهابي بمساعدة دولية. لكن شروط نمو المشكلة لا زالت موجودة في غالبية مناطق العراق سواء التي تضررت من احتلال التنظيم أو التي تضررت من محاربته، كما أن مقدمات الحلول الجذرية لا زالت غائبة عن جدول أعمال القائمين على البلاد. والحق، أن الشروط التي هيّأت الأرضية لما حدث وأوصلت معادلة الحكم في العراق إلى نقطة الافتراق، والتي عادةً ما تؤدي إلى انفجار من نوع ما، باتت تنتقل رويدًا رويدًا إلى وسط وجنوب العراق، وما انتفاضة تشرين إلا جرس إنذار يشابه رنينه من أحد أوجهه ما حصل في ساحات الاعتصام الغربية.

بدلًا من قلع الجذور التي أدت إلى أزمة كادت تودي بوحدة العراق، وجدت "الطبقة" السياسية العراقية في تحرير الأرض من داعش فرصةً لتقاسم المغانم بهدوء وبعيدًا عن التهديدات وشكاوى التهميش والاقتتال والاغتيالات والمفخخات. فرصة لتطبيع العلاقات بين "ممثلي المكونات"، أي مع أنفسهم وليس مع المجتمع، ولاستئناف عمليات الفساد لا الإصلاح، وكأن مشاكل البلاد محصورة في رضا/زعل الأحزاب فيما بينها.

نجح العراق كدولة في استعادة أراضيه من التنظيم الإرهابي؛ لكن شروط حصول الأزمات "باقية وتتمدد"

لم يقتصر الانهيار ثم اندلاع الحرب على دمار البنى التحتية في مناطق العمليات العسكرية ومقتل وإصابة عشرات الآلاف من المدنيين والعسكريين، وتشريد ونزوح الملايين من المواطنين وفقدان بيوتهم وأحبائهم، إضافة إلى تضرر الاقتصاد وتراكم الديون بسبب المعارك، بل أدى إلى نشوء أزمات جديدة تقلل من ثمرة الانتصار على الجماعات التكفيرية.

اقرأ/ي أيضًا: كيف كان أداء القوات المسلحة عند سقوط الموصل؟

مع سقوط المحافظات وبدء معارك صدّ التقدم، تشكلت ميليشيات مسلحة بدعوى "حرب العقائديين ضد العقائديين" وهي خديعة انطلت على المجتمع مع صدمة تمدد الدواعش وقطع الرؤوس والإبادات الجماعية كما حصل في مذبحة سبايكر، واستغلت بعض الميليشيات الموجودة أصلًا فتوى المرجعية الدينية لإضفاء طابع القداسة على كياناتها لتصبح دولة أقوى من الدولة. ومع التحرير، ودون أن تمهل العراقيين فرصة استرجاع الأنفاس، برزت المعضلات المتشكلة من "الحرب العقائدية" لتقف بوجه طوي صفحة الماضي والشروع ببناء دولة ديمقراطية يحكمها القانون. أضحت الأحزاب المشاركة في السلطة تمتلك أجنحة مسلحة تزيد من قوتها المضافة لهيمنتها ككتل نيابية، وتعمّقت في مؤسسات الدولة والمجالات الحيوية والعسكرية وكونت ما يُعرف بـ"الهيئات الاقتصادية"، وحمت فاسدين وعرقلت إجراءات إصلاحية ضرورية، لتضيف المزيد من التعقيد على المشهد السياسي المشلول، توجتها في دفاعها المحموم عن رئيس الحكومة السابق عادل عبد المهدي والمساهمة في سفك المزيد من الدماء بدل حقنها بالاستجابة للمتظاهرين والشارع الغاضب، حتى اضطر الرئيس الكاريكاتوري للاستقالة بتدخل حاسم من مرجعية النجف. ولهذه الأسباب ولغيرها اعتبرت الأخيرة الحرب على الفساد أشد من الحرب على الإرهاب.

تستمد الحرب على الفساد صعوبتها من تمسّك الفاسدين بفسادهم وفرض إرادتهم بالقوة السياسية والاقتصادية والعسكرية. وهي ليست معادلة معقدة بذاتها، بل بعدم استجابة قوى النظام لدعوات الإصلاح، وبالتالي الإبقاء على ذات الأسباب التي أدت إلى انهيارات كبيرة على جميع الصعد. والمفزع الذي لا يدركوه، أن الأجواء الشعبية التي سادت المناطق الغربية والشمالية انتقلت إلى المناطق الوسطى والجنوبية، بل وحتى الشمالية الكردية بدرجة معينة، بالتالي فأن تكرار الانفجار بشكلٍ مختلف وارد نتيجة الانسداد، وأسباب وجود الحاضنة التي تشكلت سابقًا للتطرف والإرهاب، تتكاثر هنا والآن وقد تؤدي إلى احتضان أشكال أخرى تقوم بدور "الخلاص".

لقد نجح العراق كدولة في استعادة أراضيه من التنظيم الإرهابي؛ لكن شروط حصول الأزمات "باقية وتتمدد".

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

مشهدية حزيران 2014

تحديات الأمن العراقي في ظل انتشار فيروس كورونا