من مطعم "حجي لطفي" في سوق المدينة حيث كان مكاننا المفضل في الغالب لتناول وجبة الأفطار قبل أن نذهب إلى أعمالنا، نحن مجموعة من الأصدقاء إلى محلات مختلفة للكهربائيات والغذائية وتصليح المكائن وغيرها، تلك المحلات التي تلقفتنا ما أن وضعنا وثائق وشهادات تخرجنا في إطارها الخشبي وزجاجها النظيف في مكانها الذي رسمته عوائلنا لها حتى قبل دخولنا إلى الجامعات. أتذكر جيدًا ذلك الصباح، اتذكره لأنه الوحيد الذي تناولنا فيه أفطارنا دون أن ننطق بحرف، الوجوه مصفرّة، الحيرة والقلق من مستقبل مجهول قادم تخيمُ على المشهد، لا أتذكر من منا أطلق سؤاله إلى البقية ما أن خرجنا من المطعم: شفتوا الصار؟!!
في ليلة وضحاها أصبحنا أمام عصابة تُسقط محافظة وتهدد حياة آلاف من سكانها الآمنين. وهدفها البعيد الاستيلاء على كل شيء دون توقف
من أطلق السؤال كان ينتظر إجاباتنا عن حدث يوم أمس، دخول داعش إلى مدينة الموصل، والأخبار تتوالى عن تحركات عسكرية عاجلة تتوعد بها الحكومة العراقية لاستعادة المدينة أو ما سقط منها في وقتها بيد داعش، القنوات الفضائية تتحدث عن أكبر عملية نزوح ستشهدها البلاد. لا أحد منا كان يفضّل أن يبدأ بالإجابة، أوهي الصدمة التي أخرستنا، فمن يتصدى لهذا السؤال ماذا عساه أن يقول؟! في ليلة وضحاها أصبحنا أمام عصابة تُسقط محافظة وتهدد حياة آلاف من سكانها الآمنين. وهدفها البعيد الاستيلاء على كل شيء، كل شيء دون توقف! بدأت وسائل الإعلام تنقل لنا مشاهد كنا نراها في الضفة الغربية أو غزة، وشاهدناها قبل سنوات في الحرب الإسرائيلية – اللبنانية 2006، شاهدناها وتعاطف معها الكثير، اعتقد هكذا.
اقرأ/ي أيضًا: تحديات الأمن العراقي في ظل انتشار فيروس كورونا
بدأنا نشاهد الآباء وهم يمسكون بأيادي أبناءهم وتسير زواجاتهم وبناتهم خلفهم محمّلين بما ساعدتهم قواهم على ذلك، بطانيات، ملابس، أواني لخزن الماء، ومستمسكاتهم الرسمية بالطبع، وهم يسيرون في شوارع متربة، قاتمة ومجهولة، متوجهين إلى "اللامكان" إن صح القول، باحثين عن سقف وأربعة جدران، أو الأخيرة حتى، ينامون فيه أو يأويهم من مجهول لا يعرفونه.
في هيت، مدينتي حيث كنت أعيش، وبعد أن عشنا مرارة شهور من مشاهد سقوط المدن المدوّي، سقوط لا يشبهه شيء، فما يحصل عصي على الفهم والإدراك، كيف لمثل تلك العصابات القادمة من صفحات "مخزية" في تاريخنا أن تفعل هكذا؟ من أعطاها الحق؟ وكيف امتلكت القوة؟ ولماذا يتعاطف معها البعض بل ويؤيدها بحرارة؟ كيف يمكن لبعضٍ من المجتمعات أن ترى في داعش خلاصها؟ وخلاصها مِن مَن؟
هناك، حيث المدينة التي تغفو على الفرات، كان الناس يحدثوننا عن سور المدينة القديم، الشاخص إلى الآن، وأبوابه الأربعة التي تقفل ليلًا أمام الوافدين، ولا تفتح إلا نهارًا مهما كلّف الأمر حماية للمدينة من غزوات كانت تتعرض لها، صغارًا كنا فلم نفهم لماذا يصرُ البعض على الغزو؟ أحاديث مثل هذه كانت تمر علينا في لحظتها سريعًا، أو قل مثلما يقول المثل (كنسةٌ تحت السجادة).
بعد (115) يوم فقط على سقوط الموصل ومن بعدها مدن عديدة، استيقظنا على أصوات المدافع والرشاشات، الخوف وحده هو من كان يحركنا، يدفعنا نحو الباب لرؤية ما يجري، ويدفع بأصابعنا نحو الهواتف المحمولة، ويصر على إجراء المزيد من الاتصالات، بأقارب وأصدقاء من مناطق مختلفة لمعرفة ما يجري، بعد انتهاء كل مكالمة يكبر الخوف ويسيطر علينا، على كل شيء فينا، يقابله نزرٌ يسير من أملٍ تبقى نحو اتصالٍ آخر يكذب أخبارًا سمعناها، لتنتهي جولتنا في ذلك الصباح بالخوف وانتصاره، انتصاره علينا كبشر، الأخبار مؤكدة:
- داعش دخلت المدينة وأصبحت تسيطر على أجزاء واسعة منها!
تاريخ المدينة لم يشفع لها أمامهم، بل كان وبالًا عليها، المدينة المدنية منذ الأزل، وتاريخ مجتمعها السلمي المتعايش مع الآخر المختلف، عدم رغبتها منذ 2003 وموجات الهرج والمرج في أن تكون شريكةً فيه دفعهم إلى الإيغال بإيذائها، مشاهد الجثث على الأرصفة، الآليات العسكرية المحروقة، مؤسسات الدولة التي تم تسويتها مع الأرض، هيجانهم وهم يجوبون الدروب والأزقة بحثًا عن مطلوبين لهم، تنذر بأيامٍ يكون فيها اللون الأسود لونًا طبيعيًا ومقبولًا. لم يتركوا لنا مجالًا حتى لإنزال حقائب ملابسنا من حيث كانت، فلضمان السرعة اكتفينا بما نلبسه وغيارٌ آخر، حقيبة المستمسكات الجاهزة منذ 2006 في رحلات الهروب والعودة إلى البيت.
ونحن نهرب حيث لا ندري إلى أين، واجهنا مجاميع منهم، كانوا وحوشًا بالمعنى الحقيقي، قذرين وتبدو على ملابسهم بقايا الدم، دمنا الذي سمح لهم الجميع بأن يسفكوه، حفاةً لا ينتعلوا شيئًا في أقدامهم، عيونهم قوية، مترقبة، باحثةٌ عن كل شيء لاستغلاله ضدك أنت المعروف بالنسبة للبعض منهم، تاريخك وانتمائك وموقفك منهم، كيف لا ومنهم من أبناء المدينة كثير، عرفناهم لأنهم وضعوا لثامًا على وجوههم عكس البقية مكشوفي الوجوه، وأبرز ما كان يميّزهم هو حملهم لأحدث الأسلحة والسيارات، إلا أنهم أصروا على أن تكون في حزام كل منهم سكينٌ كبير، كان أحدهم يحملها وقد تحول لون نصلها إلى بنفسجي، أو أسود بعد أن جف الدم عليه، يقف على جنب، وخلفه حارس ضخم، لا أحد يقترب منه سوى حارسه ومجموعةٌ من الذباب كانت تحوم حول سكينه!
فتح تنظيم داعش في مخيلتنا أسئلة كثيرة لم نجب عنها لغاية الآن
داعش فتحت في مخيلتنا أسئلة كثيرة، ورغم إننا هزمناها أخيرًا، وأصبحت جزءًا من ماضٍ موجع، إلا أننا لم نجب لغاية الآن عن أسئلة مهمة، ملحة وضرورية، لماذا جرى ما جرى، لماذا دفعنا ثمنًا غاليًا إلى هذا الحد؟ ولماذا لم نلغي أسباب وجودها أو نناقشها صراحةً على الأقل؟ لماذا لم نعترف أنها حقيقة قادمة منا، وليست دخيلة!
اقرأ/ي أيضًا: