في الجلسة الثالثة عشر لمجلس الوزراء المنعقدة في 28 آذار/مارس الماضي، قرر المجلس شمول حتى الفلاحين الذين زرعوا خارج الخطة الزراعية بالدعم الحكومي. لكن يظهر أنّ هذا الدعم سيكون الأخير، ليس للفلاحين المخالفين للخطة الزراعية فحسب، بل لجميع الفلاحين والعملية الزراعية على الإطلاق.
تتوجه الحكومة إلى تقليل الدعم عن الفلاحين والعملية الزراعية في العراق عمومًا
وفي الجلسة نفسها، تمّت الموافقة أيضًا على استمرار العمل بقرار مجلس الوزراء (70 لسنة 2022) وتسلّم محصول الحنطة المحلية تسلّمًا كاملًا من الفلاحين (في داخل الخطة المقرة وخارجها) للموسم الحالي لدعم الإنتاج الوطني وتحقيق الأمن الغذائي من مادة الحنطة المحلية.
إلا أنه بالمقابل، تترادف المؤشرات على توجه حكومي لتضييق الدعم للفلاحين وفقًا لمختصين تحدثوا عن تحول الزراعة من كونها عملية تستهدف "منفعة الفلاحين" فحسب، كما كانت دائمًا، بل جعلها تتعدى لمنفعة الدولة أيضًا.
وفي أوضح مثال على كيفية تحول العملية الزراعية نوعًا ما إلى عملية تستهدف منفعة الفلاح في الدرجة الأولى بدلًا من المنفعة العامة، هو استهلاك العراق لكميات كبيرة من المياه وسط الجفاف الذي يشهده، حيث تستهلك الزراعة 80% من مجمل المياه المستهلكة سنويًا في العراق، ولا سيما في زراعة محصول الحنطة الذي يشكل الحجم الأكبر من عملية الزراعة في العراق، ومع هذا الاستهلاك الكبير للمياه، تقوم الدولة بشراء طن الحنطة من الفلاح بـ850 ألف دينار، فيما لا يكلفها لو قامت باستيراده أكثر من 650 ألف دينار، مع الحفاظ الكامل على كميات المياه التي تستهلك في الزراعة.
ومن خلال المؤشرات التي بحث عنها "ألترا عراق"، وجد فعلًا أن تتوجه لتقليل دعم الفلاحين والعملية الزراعية عمومًا.
في كانون الثاني/يناير الماضي، وفي اجتماع لرئيس الوزراء محمد شياع السوداني مع الكوادر المتقدمة في وزارة الزراعة، أكد أنّ "الموسم الزراعي المقبل لن يكون فيه أي دعم لأي فلاح لا يستخدم تقنيات الزراعة الحديثة وطرق الري الحديثة بالرش، وهذا جزء من سياسة إصلاح القطاع الزراعي".
المؤشر الآخر الذي يترجم هذا التوجه، ما كشف عنه عضو اللجنة المالية النيابية عدنان الزرفي في
تدوينة على حسابه عبر "فيسبوك"، في سياق حديثه عن أبرز ما تضمنته موازنة 2023، حيث أشار إلى "تضخم موازنة وزارة التجارة على حساب وزراة الزراعة ودعم المزارعين ضمن موازنة 2023"، وهو ما يعني بالتالي زيادة "استيراد المواد الغذائية ومن بينها الحنطة، على حساب الزراعة".
أما المؤشر الثالث، الذي يؤكد أنّ "تقليص الدعم الحكومي" لن يقتصر على الفلاحين المخالفين وأولئك الذين لايستخدمون تقنيات الري الحديثة في الموسم الزراعي المقبل فحسب، بل أن تقليص الدعم سيطال حتى أولئك الذين يلتزمون باستخدام تقنيات الري الحديثة، من خلال ما كشف عنه السوداني في اجتماع مع لجنة الزراعة النيابية، بالقول إنّ "الموسم الزراعي المقبل سيشتمل على دعم مخرجات العملية الزراعية دون دعم المدخلات، من أجل الحثّ على ترصين القطاع الزراعي وزيادة جدواه الاقتصادية".
ويعني هذا أنّ الحكومة ستديم الدعم في شراء المحاصيل الزراعية أو المساعدة في تسويقها، لكنها لن تقدم الدعم للمدخلات المتمثلة بالسماد والبذور وغيرها.
وفي مؤشر رابع، يقول وكيل وزير الزراعة مهدي سهر، في تصريح متلفز تابعه "ألترا عراق"، إنّ حصة وزارة الزراعة من الموازنة في السابق كانت 1 تريليون دينار، ولكن في موازنة 2023 ستكون أقل من 1 تريليون دينار.
وبينما يؤكد مختصون وجود معادلة خاسرة بالفعل في العملية الزراعية وضرورة تقنين الدعم وتحويل العملية الزراعية إلى عملية مجدية اقتصاديًا بالنسبة للدولة، إلا أنه تبقى المخاوف من إمكانية أن يهجر الفلاحون العملية الزراعية بفعل انخفاض الأرباح المتوقع نتيجة هذا التوجه الحكومي، وما سيؤدي إليه هذا الأمر من أضرار.
يتحدث خبراء عن مزارعين يقومون بشراء الحنطة من إيران بأسعارها الحقيقية ومن ثمّ يقومون ببيعها على الدولة في العراق
ويشير الباحث الاقتصادي مصعب كريم، إلى أنّ الدولة ستربح من هذا التوجه على مقدار الدعم الذي توفره للفلاحين، والذي يتراوح بنسب مختلفة تمثل أموالًا طائلة.
ويقول كريم في حديث لـ"ألترا عراق"، إنّ "نسبة الدعم في مخرجات الزراعة تبلغ 25% وشراء 4 ملايين طن من الحنطة بالسعر المدعوم يجعل الدولة تخسر أكثر من 800 مليار دينار عراقي مقارنة بأسعاره الحقيقة أو فيما لو قامت باستيراده".
وفيما يتعلق بالمدخلات الزراعية، يبيّن كريم أنّ "الدولة تبيع السماد إلى الفلاحين بنسبة دعم تبلغ 35% وأحيانًا تصل إلى 50%، أما البذور، فتبيعها بنسبة دعم تبلغ 70%"، متوقعًا أن "توفر الدولة من إلغاء دعم المدخلات الزراعية أكثر من 300 مليار دينار عراقي".
وبالنسبة للباحث، هناك مسائل أخرى تؤخذ بنظر الاعتبار، حيث أنّ "العملية لا يمكن أن تقاس من ناحية ماذا ستكسب الدولة من هذا التوجه، فهناك تكاليف اجتماعية أخرى قد تحدث جراء هذا التوجه من خلال امتناع بعض الفلاحين من الزراعة نتيجة انخفاض الربح، بالتالي ستخرج أراضي زراعية خارج الخطة، فضلًا عن ارتفاع معدل البطالة بين هؤلاء الفلاحين".
لكنّ الخبيرة الاقتصادية سلام سميسم، ترى أنّ هذا الإجراء سيفرز عمليات الفساد في العملية الزراعية، عن الفلاحين الحقيقيين.
وتقول سميسم في حديث لـ"ألترا عراق"، إنّ "هنالك مزارعين أو تجّار يقومون بشراء الحنطة من إيران بأسعارها الحقيقية ومن ثم يقومون ببيعها على الدولة في العراق بالسعر المدعوم ليكسبوا أموالًا طائلة جراء هذه العملية".
وهناك العديد من المزارعين لا يزرعون ـ بحسب سميسم ـ حيث "يحصلون على السماد والبذور المدعومة ويقومون ببيعها"، معتبرة أنّ "هذا الإجراء مجدٍ وسيضمن السيطرة على مسألة قلّة الموارد المائية".