03-مارس-2019

الاحتجاجات في بغداد (Getty)

المجتمع المُنَظّم هو الأكثر قدرة على التغيير السياسي والاجتماعي. المفتاح الأول، أو إحدى أدوات التغيير، هو التنظيم الطوعي، وأي مجتمع يتجاهل هذه الحقيقة سيبقى غارقًا في الفوضى ويتحوّل إلى ساحة كبيرة للجماعات التي تنخرها الولاءات وتجمعها الهويات الفرعية. التنظيمات الطوعية هي اللبنة الأولى لخارطة المجتمع المواطني، والتشكيل الأول للوعي السياسي الموجّه بطريقة عقلانية ومدروسة، وتخضع لروح العمل السياسي المنضبط العابر للحميميات القبلية والطائفية.

التنظيمات الطوعية هي اللبنة الأولى لخارطة المجتمع المواطني وهي من صميم روح العمل السياسي غير الخاضع للحميميات القبلية والطائفية

على سبيل المثال، دائمًا ما نجحت جماعة الخضراء في قمع الاحتجاجات، لأنها تمتلك أدوات القوّة، وتستخدم عنف الدولة في كبح جماح المحتجين. لو كان المحتجّون أكثر تنظيمًا لاستطاعوا بشكل أو آخر طرح عدّة بدائل مع وسائل الاحتجاج واستمرار الضغط الجماهيري. لا يعني هذا أنهم باستطاعتهم تجاوز عنف الدولة، فهذا أمر آخر، وإنما يعطينا التنظيم ضمانات مستقبلية لديمومة زخم الفعل السياسي المنظم، ذلك أن الاحتجاج لا ينحصر في مكان بل هو إستراتيجية ورؤية مستمرة للتغيير والعمل على صناعة التحوّل التاريخي المنشود.

اقرأ/ي أيضًا: في ذكرى تظاهراتنا.. الصراع داخل "طائفة الاحتجاجات"

تفرز التنظيمات السياسية منظّرين وإداريين وكتّاب وصحفيين ..إلخ؛ فهي "برلمان" مصغّر تدار فيه الشؤون السياسية، ويمارس فيه الفعل الديمقراطي. والمهمّة الملقاة علينا، نحن الديمقراطيين، السعي إلى إشاعة روح الديمقراطية عمليًا في حراكنا، والتفكير الجدّي في إنشاء تنظيمات ديمقراطية حقيقية، والسعي للمشاركة السياسية لنكون جزءًا من عملية التغيير. بمعنى آخر، أن لا تكون ديمقراطية بلا ديمقراطيين، ففي نهاية المطاف ستأكلنا الشعارات في خضم تمدد السلطة بفسادها وإقطاعياتها "المحاصصاتية".

إن الأسباب الجوهرية في فشل أي حراك اجتماعي أو سياسي هو ضعف قدرته على إعادة إنتاج نفسه؛ لقد تداعت قوة الاحتجاج الشبابي في مصر لأنها لم تكن منظمة بما فيه الكفاية، فيما نجح الإخوان بتنظيمهم الصلب والمتماسك وبخبرتهم السياسية الطويلة. مؤكد أن الأسباب متعدّدة لكن يبقى سوء التنظيم أحد الأسباب المهمة. نحن العراقيين، نكره العمل التنظيمي، وبتعبير أوضح، نكره الأحزاب، علمًا إننا لم نشهد تجربة حزبية سياسية على نطاق واسع، ولنا الحق، ربما، في ذلك الشعور نتيجة الإرث الاستبدادي الثقيل وتضخّم الذاكرة العراقية بثقافة "الجثث المُعَلّقَة" على حد تعبير المفكر الراحل هادي العلوي.

لكن ينبغي أن نذكّر أنفسنا دائمًا، أن التغيير لا يحدث من خلال رافعات، ولا بالعداوات الشخصية والتظلّم والشكوى، والتنديد بالعملية السياسية دون بديل مطروح في المجال العام، أو محاولة جعل أنفسنا نجومًا من ورق. لا توجد لدينا لعبة سوى الديمقراطية، ولا يحدث تغيير إلّا من خلالها، وعلى الرغم من المخرجات المشوهة والمؤلمة "للديمقراطية" في العراق، تبقى هي الرهان الأكبر للتغيير بعد عبور حالة الولاء الطائفي الذي يقوّض أسس الديمقراطية. نحن الآن في مرحلة حرجة للغاية، ذلك أن العراقيين لم يكونوا يومًا متجانسين بسبب قوة التهميش السياسي المُتَعَمّدة، وتحقير أغلب المواطنين وحرمانهم من تنظيم أنفسهم سياسيًا. ولكي تكتمل السلسلة جاء كابوس المحاصصة، ليتحوّل الفعل الديمقراطي إلى كرنفال طائفي بغيض.

إن الأسباب الجوهرية في فشل أي حراك اجتماعي أو سياسي هو ضعف قدرته على إنتاج نفسه

جاء هذا الكرنفال كنتيجة حول عدم تجانسنا بسبب انعدام الممارسة السياسية في حقبة الاستبداد، ذلك أن التجانس السياسي كان على نحوٍ قسري في حقبة الحزب الواحد والقائد الواحد، فأنتج لنا طائفية سياسية كريهة. نعم كان العراق متجانسًا بقطع الآذان وبتر الرؤوس وإذابة المعارضين في حامض السيانيد وتوسيع رقعة السجون السرية والإعدامات الجماعية. بهذه الطريقة المرعبة أحكم الاستبداد قبضته على العراقيين. استيقظ العراقيون ليجدوا أن حقبة الاستبداد قد ولّت واستبدلها الغزاة باستبداد جديد قائم على ترسيخ الطائفية بجماعاتها وهوياتها الفرعية هذه المرة لتكتمل الصورة وتظهر الفجوة الكبيرة في غياب التنظيم، ولا زلنا حتى هذه اللحظة لم نستطع تنظيم أنفسنا لإقناع المواطنين بآثار الممارسة السياسية. ومهما علت الأصوات الوطنية في هذه المعمعة سوف لا يُنظَر لها إلا كونها أصوات حالمة تسبح في الفراغ، لأنها تصرخ وحدها بلا تنظيم يقنع الجمهور بصناعة النموذج وجدوى العمل المُنَظّم.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

عراق "المحاصصة" الطائفية وسلطة ضد الدولة

قصة الدولة في العراق: ذلك السؤال الغائب