12-فبراير-2019

الاحتجاجات في بغداد (Getty)

لا يكاد لهذا اليوم أن ينقضي من ذاكرة الفرد العراقي، الناقم والمحتج على النظام السياسي الذي أعقب الغزو الأمريكي عام 2003. كان يوم أمس هو الذكرى الثانية لتظاهرات 11 شباط/ فبراير 2017، والذي خرج به المتظاهرون الغاضبون بمطالب سياسية مشروعة وسط خراب عمره أكثر من 15 عامًا. تأتي هذه الذكرى مُحمّلة بالخيبات والآلام على حدٍ سواء. حيث أُزهقت الأرواح وسقط أكثر من 6 شباب في ساحة التحرير سابحين بدمائهم، وأصيب معهم مئات الجرحى، منهم من لم يشفَ من إصابته حتى الآن. كل هؤلاء استشهدوا وجرحوا لمطالبتهم بحياةٍ طبيعية كسائر البشر، نعم، سقف المطالب كان واطئًا جدًا، حياة طبيعية لا حياة كريمة، وحصل ما حصل.

لم يستطع النظام العراقي أن يعالج التراجع المريع في فاعلية مؤسسات الدولة والحد من الفساد ومنع السلاح من أيدي الميليشات

صحيح، أن الاحتجاجات لن تقف عند هذا الحد، ولا على احتجاجات بغداد من هذه الذكرى صعودًا. كما شهدنا تجددها بالبصرة في مطلع تموز/ يوليو 2018. حيث يبدو عجز الحكومة الحالية واضحًا وفاضحًا، فهي لم تستطع معالجة التراجع المريع في فاعلية المؤسسات، ولم تحد من الفساد المستشري في كل مرافق الحياة العراقية، ولم تستطع منع حمل السلاح في أيدي الميليشات، فضلًا عن تراجع النظام وعدم قدرته على بسط سيطرته على الجماعات التي تعتبر نفسها فوق الدولة، كما يعرف الجميع ذلك. ومن هذا المنطلق يجب تحديد مواضع الخلل في المرحلة التي رافقت الاحتجاجات السابقة لكونها مستمرة دائمًا واستمرارها في ذات الأخطاء سيكرّر المأساة دون جدوى.

اقرأ/ي أيضًا: تظاهرات البصرة تتوسع في العراق.. سخط الجنوب يوحد الشارع

لعل تشتت المطالب في احتجاجات بغداد كان من أهم الأسباب في انحدار نسبة نجاح هذه التظاهرات، فمن حكومة التكنوقراط وإنهاء المحاصصة، إلى إصلاح القطاع الزراعي والصناعي، إلى المطالبة بالكهرباء وتوزيع حصص من عائدات النفط على الشعب ومحاسبة الفاسدين، إلى توفير الأمن اللازم ومن ثم إلى تغيير قانون الانتخابات وإزالة المفوضية والمجيء بواحدة جديدة، ومن غير المعقول إصلاح كل هذا الخراب المتجذر في النظام دفعة واحدة، لأنه وببساطة لا يمتلك الجدية والإرادة في إصلاح الخراب وتغيير ما يعاني منه الناس.

ولأن الإرادة العامّة لا تتحقّق في نظام محاصصاتي يعزف من فيه كل على وتر الطائفة أو المكوّن الذي ينتمي له، كان ينبغي أن يكون الحل سياسيًا، برفع سقف المطالب، وطرح شعار تغيير النظام السياسي الحاكم، خاصة بوجود نقمة كبيرة وخروج الملايين إلى ساحات الاحتجاج كان ينبغي أن تستثمر للآثار المجدية لا إعطاء جرعة منقذة للنظام الذي أثبت عجزه التام في الأداء على كل المستويات بفساده وعدم قدرته على إدارة الأزمات، فضلًا عن سذاجة دستوره وجرائم أحزابه الحاكمة، وجرائم المسؤولين الذين تولوّا الحكم فيه. وأن ينادي كل العراقيين بدولة مواطنة ذات نظام ديمقراطي حقيقي، بدل دولة مكوّنات طائفية، ذات نظام محاصصاتي لا يجد ديمومته إلا في الانقسام.

لا يقتصر هذا الانقسام على النظام السياسي فقط، إنما يعبر على النخب العراقية التي تعاني من التشظي وعدم التوحيد في خطاب وطني واحد، لأجل أمور بعضها بنيوية، وبعضها شخصية، كانت للأمور النفسية والخلافات الأثر الكبير منها. كما أن بعض النخب الإسلامية كانت لا تُجيد الانصهار ضمن سياق الشراكة الوطنية في الاحتجاج، وبعض النخب العلمانية تتقذر من الاسلاميين، لا لشيء، إلا لأنهم إسلاميون فقط في سياق علماني يتبنى موقفًا سلبيًا حتى من المتدينيين كجزء من الشعب المظلوم، ويضعهم في إطار واحد مع الأحزاب الإسلامية الحاكمة. إذ انقسم العلمانيون على بعضهم وانقسم المدنيون على بعضهم، ووصل الجدل إلى عنان السماء، الجدل الذي لا ينتهي بنتائج صحية تصب في ديمومة الاحتجاج وتقويته تجاه النظام الذي بدأ يستخدم العنف ضد العزل، وبدأ يقوي من نفسه إزاء التظاهرات في كل مكان.

لا يقتصر الانقسام على النظام السياسي "المحاصصاتي" فقط، إنما على النخب التي تنتمي إلى الأوساط الفاعلة على مستوى الرأي والاحتجاج

إن مراجعة السياقات التاريخية للثورات والاحتجاجات في العالم ستتيح لنا رؤيتها بتجرّد، وأنها لا بدّ أن تتحرك بأطر وطنية شاملة لكل النسيج المجتمعي، دون انتقاء هوياتي، هذا أصيل وذاك لا أتفق معه، دائمًا تكون هوية الاحتجاج، هي هوية الحقوق، وهوية العدالة الاجتماعية. وما حصل في العراق كانت الهويات تتولد يوميًا في مسار التظاهر، وكل جماعة تريد أن تقول إنها من يمثل الحركة المطلبية، وأنها المسؤول الوحيد عنها، كان العمل يجري كأنما بروح القبيلة لا بروح المسؤولية الوطنية.

اقرأ/ي أيضًا: تظاهرات حصرية "للعلمانيين" في العراق.. محاربة الطائفية بأسوأ منها

أدى نظام الديمقراطية التوافقية إلى أن يقسّم أبناء هذه الأرض إلى سُنّة وشيعة، والسنة ينقسمون على بعضهم في داخل الطائفة، كما الشيعة الأكثر انقسامًا في الإطار الشيعي الداخلي. وبعد نشوء الاحتجاج أصبحت هناك عشرات المواقف التي تحوّل الاحتجاجات فيها إلى طائفة جنب الطوائف الأخرى، ثم يتشقق من طائفته طوائف أخرى، ويكون صراع داخل الطائفة الاحتجاجية الواحدة أيضًا على الطريقة الشيعية والسنية، ويتذكر القارئ العزيز معنا الحركات التي انقسمت وانشقت بأسماء عديدة، منهم "علمانيون، مدنيون، مستمرون، إلى آخره.

وفي طبيعة الجماعات التي انقسمت من هوية الحقوق الوطنية، ومن المحسوبين على النخبة الثقافية في العراق، أنهم لا يجلسون سوية كمجموعة تتكوّن من عشرة أفراد جالسين في مكانٍ واحد، خمسة هنا وثلاثة هناك واثنين على جنب، ولك أن تتخيّل الموقف. أصبحنا مثل المريض الذي ذهب إلى المكان البعيد لكي يجد دواءً فرجع مصابًا بمرض آخر لا يقل خطورة عن سابقه.

نحن نؤمن كل الإيمان إن تراكم الاحتجاجات ذات الهوية الوطنية في أي مجتمع سيولد الانفجار الكبير، الذي لا يمكن أن يقف بوجهه أحد، الانفجار الذي سيكون عبارة عن انسداد بين الشعب والنظام، كما حدث في سوريا مصر والبلدان العربية. إنها ثورة الجياع والمقموعين الذين يستيقظون بعد سنوات من التجاهل واللامبالاة، ويقولون: نحن هنا، ووقتها لا ينفع الندم، إذ ستفقد النخب وجودها وفاعليتها، وكل من أراد أن يعيش التحوّل التاريخي سيندم لأنه لم يلحق بشعبه الذي يحاول بناء نفسه بنفسه، بعد أن عجز من يسمون أنفسهم "صفوة المجتمع".  

إن تذويب الهويات الفرعية في الهوية الوطنية الكبرى هو السبيل الوحيد لتكوين التغيير المنشود الذي يطمح إليه الناس

يدرك كل ذي وعي أن تذويب الهويات الفرعية في الهوية الوطنية الكبرى هو السبيل الوحيد لتكوين الخطاب الوطني الجامع والذي تخاف منه الأحزاب الطائفية، وهذا العمل يقع على عاتق النخب السياسية والوطنية، إن كانت هنالك نخب تحمل همومًا كبرى وتريد أن تثمر لإصلاح العملية السياسية و توفير"الحياة الطبيعية" لابن البصرة والنجف وابن نينوى وكردستان على حدٍ سواء.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

2018 في العراق.. المحاصصة أقوى والاحتجاج أوسع

تراث المحاصصة الذي لم ينته في العراق